الفصل الأول المبحث الثالث: تحليل الحديث..
المطلب الأول: شرح ألفاظ الحديث ودلالتها
لا تزال، ولا تبرح
جاء في الروايات (لا تزال)، و(لا يزال)،
و(لن يزال)، و(لا تبرح)، و(لن يبرح). وهذه الأفعال (زال - يزال) و(برح - يبرح)
ومثلها: فتئ وانفك، تعمل عمل (كان) وأخواتها إذا سبقها أداة نفي أو نهي.
وتفيد (ما زال وأخواتها) الاستمرار،
والبقاء، والثبات، و”ملازمة
الخبر المخبر عنه، على حسب ما يقتضيه الحال»[1]،
فقولنا (ما زال زيد ضاحكًا) يعني أنه استمر في الضحك. وقال الحازمي: «ما برح، ما زال، ما انفك، وما فتئ: هذه
الأربعة... معانيها متفقة بلا خلاف، وهي موضوعة لاستمرار ثبوت خبرها لفاعلها منذ
قبله، أي: منذ كان للفاعل قابلية الاتصاف بالخبر»[2]، ثم أعطى مثالًا على مراد قول النحويين:
على حسب ما يقتضيه الحال الذي هو عليه، فقال: «ولا زال زيد منفقًا: بحسب ما يقتضيه
الحال، وهو مدة بقاء المال في يده»[3]، أي أن زيدًا قد يمر عليه زمن لا ينفق فيه
لعدم توفر المال معه، ولكنه منفق في أكثر أحواله كلما توفر المال.
وهذا يقودنا إلى أمر مهم في فهم أن استمرارية
الملازمة بين الخبر والمبتدأ لا تقتضي عدم الانقطاع المحدود بينهما، وأن انقطاعًا
نسبيًا قليل الحدوث من ناحية التكرار وطول المدة لا يؤثر على إطلاق صفة الملازمة
على حسب الحال. فقولنا: لا يزال محمد متفوقًا في دراسته، لا يعني أنه لم يفشل قطعًا،
ولو في امتحان واحد، ولكن تحصيله النهائي أبرز قدرته ومهارته.
وقولنا: لا تزال الطائفة قاهرة لعدوها، أي أنها
تقهر عدوها في أكثر أحوالها كلما قابلته وواجهته، أو وقعت الحرب بينهما، وإن ضعفت
أو هزمت في زمن ما، فإنه زمن عارض لا يمنع إطلاق صفة القهر عليها لكثرة المرات التي
تمكنت فيها من قهر عدوها، والعبرة بالخواتيم، فالتحصيل النهائي لتاريخ الطائفة
يحدد مدى الاستمرارية وطبيعتها، والمرحلة الأخيرة في هذه الحالات تكون حاسمة
ومصيرية.
وهذا ينطبق على صفات الطائفة الأخرى، بأنها
لا تزال قائمة على الدين، وظاهرة على الحق، ومنصورة، وغيرها من الصفات المذكورة في
الحديث، وإذا كانت الأمة -والطائفة معها بطبيعة الحال- تعيش هذه الأيام واقعًا
عصيبًا، الأفضلية فيه للأعداء، وهم الظاهرون والغالبون كما هو مشاهد، فإنه لا
يعارض مراد الحديث بأن الطائفة مستمرة بالظهور والنصر والأفضلية.
ولهذا قال ابن بطّال في شرحه للحديث على
صحيح البخاري: «يريد أن أمته آخر الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضعف
الدين، فلا بد أن يبقى من أمته من يقوم به، والدليل على ذلك، قوله: (لا يضرهم
من خالفهم)، وفيه أن الإسلام لا يذل، وإن كثر مطالبوه»[4].
فيلزم من هذا المنطلق وجود الطائفة في كل
أزمنة المسلمين، وألا يخلو منها زمان، وأنها إنْ اختلفت أحوالها، فإن لها طابعًا
وصفة ثابتة على الصورة التي أخبر عنها النبي ﷺ إلى قيام الساعة، كما جاء في الحديث.
الطائفة، والعصابة، والأمة، والقوم، والناس
قال ابن منظور: «الطائفة من الشيء: جزء منه، وفي التنزيل
العزيز: ﴿وَلۡیَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَاۤئفَةࣱ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ (النور: 2). قال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد
إلى الألف، وقيل: الرجل الواحد فما فوقه... والطائفة: القطعة من الشيء»[5]، وذكر ابن منظور حديث الطائفة المنصورة،
وقال: «لا تزال
طائفة من أمتي على الحق، الطائفة: الجماعة من الناس، وتقع على الواحد كأنه أراد
نفسًا طائفة، وسئل إسحاق بن راهويه عنه فقال: الطائفة دون الألف، وسيبلغ
هذا الأمر إلى أن يكون عدد المتمسكين بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه ألفًا، يُسَلّي بذلك ألَّا
يعجبهم كثرة أهل الباطل»[6].
والأُمّة «الرجل الجامع للخير، والإمام، وجماعةٌ
أرسل إليهم رسول، والجيل من كل حي»[7]، فتطلق الأمة على «كل قوم نسبوا إلى نبي فأضيفوا إليه... وكل
جيل من الناس هم أمة على حدة... وكل جنس من الحيوان غير بني آدم أمة على حدة... والأمة:
الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله - عز وجل-: ﴿إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ كَانَ أُمَّةࣰ﴾»[8]، (النحل: 120). «والأمة: الطريقة والدين. يقال: فلان لا
أمة له، أي لا دين له، ولا نحلة له»[9].
وقد تستخدم كلمة (أمة) للدلالة على الجزء من
الكل أيضًا، كما في قوله ﷻ: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ﴾ (آل عمران: 104)، قال ابن كثير في تفسيرها: «والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من
الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه»[10]. ومثله قوله ﷻ: ﴿لَیۡسُوا۟ سَوَاۤءࣰۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ أُمَّةࣱ قَاۤئمَةࣱ یَتۡلُونَ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ وَهُمۡ یَسۡجُدُونَ﴾ (آل عمران:
113)، قال ابن
كثير: «والمشهور
عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله
بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم. أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من
أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً، أي: ليسوا
كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم»[11].
و(الناس) «يكون من الإنس ومن الجنّ، جمع
إنس، أصله أُناس»[12]،
مفردها إنسان
من غير لفظه، وقال الراغب الأصفهاني: «والناس: قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من
يتناوله اسم (الناس) تجوّزًا»[13].
وأما (قوم) فمن معانيها «الجماعة من الرجال والنساء جميعًا، وقيل:
هو للرجال خاصة دون النساء... وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته، وروي عن أبي
العباس: النفر، والقوم، والرهط: هؤلاء معناهم الجمع لا واحد لهم»[14]، وتحتمل كلمة القوم الكثير والقليل دون
تحديد عدد، كما في قوله عز وجل: ﴿لَا یَسۡخَرۡ قَوۡمࣱ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُوا۟ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ﴾ (الحجرات: 11).
(والعِصابة) «جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين»[15]، وهذه المفردة الوحيدة التي نجد في معناها
تحديد عدد الأشخاص من كذا إلى كذا، ولكن ليس الأمر على إطلاقه، فيقال: «كل جماعة رجال، وخيل بفرسانها أو جماعة
طير أو غيرها عصبة وعصابة»[16]، هكذا دون تحديد عددهم، وعبارة (خيل
بفرسانها) تشير إلى شيوع استخدام مفردة (العصابة) للمجموعات المحاربة، كما في بعض
أحاديث الفتن، ومنها (عصائب العراق) و(أمير العُصَب)، قال ابن منظور: «وفي حديث علي[17]:
الأبدال بالشام، والنجباء بمصر، والعصائب بالعراق. أراد أن
التجمع للحروب يكون بالعراق، وقيل: أراد جماعة من الزهاد، سماهم بالعصائب»[18].
ومن الأحاديث التي تؤيد شيوع هذا الاستخدام
حديث النبي ﷺ: «عصابتان من أمتي حرّرهما الله من النار:
عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليهما السلام»[19]. وأيضًا دعاء النبي ﷺ في غزوة بدر: «اللهم أَنْجِز لي ما وعدتني، اللهم آت ما
وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض»[20]. والعصابة في هذين الحديثين تفوق في عددها
الأربعين، وهي تحتمل جيشًا بأكمله، فالصحابة في غزوة بدر فاق عددهم الثلاث مئة.
ويستفاد من هذه الألفاظ (الطائفة، والعصابة،
والأمة، والقوم، والناس) أنها تتضمّن معنى الجزء من الكل، أي أن الطائفة المنصورة
هي بعض الأمة وليس جميعها، وأنها مجموعة من مجموع الأمة الإسلامية، وقد أشار ابن
بطّال إلى هذه الدلالة في شرحه لصحيح البخاري، فقال: «إن قوله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق)، لفظه لفظ الخصوص في بعض الناس دون بعض»[21]. ومما يبين هذا المعنى أن هذه الألفاظ
لحقها حرف الجر (مِن) في قوله (مِن أمتي)، ومن معانيه التبعيض، وأكثر الألفاظ
دلالة على التبعيض كلمة (طائفة) التي تعني: القطعة من الشيء، كما قد تفيد بذلك
كلمة (أمة) وباقي المفردات.
وتحتمل الألفاظ من حيث العدد القليل والكثير
من الأفراد، وليس تحديد العدد ذو أهمية بالنسبة لهذه المجموعة (الطائفة)، بل
يكفيها أن يجتمع أفرادها على طريقة واحدة، ومنهج واحد سواء قلّت أو كثرت.
واجتماع هذه الطائفة، ليس اجتماعًا عبثيًا،
بل جاء بعدما تميّزت والتقت على منهجية وطريقة حياة معينة، ووجود هدف موحد تسعى
لتحقيقه، فالأمة قد تطلق على الطريقة والدين، والعصابة قد يرد بها المجموعات
المحاربة والفرسان، والناس قد يراد بهم الفضلاء من الناس، كما ظهر في الشرح، ويدل
هذا مع باقي الألفاظ التي سيأتي توضيحها أنها صاحبة أداء فاعل، وتتجه نحو هدف
محدّد لا تنشغل عنه.
وكون هذه الطائفة بعض أمة محمد ﷺ، لا يلزم حصر الصلاح بها وحدها، في أي زمن
كان، ولا يفهم من الحديث الشريف أن الطائفة المنصورة هي الوحيدة القائمة على أمر
الله، ولا يوجد طوائف أخرى غيرها عبر الأزمنة يمكن أن تقوم بدور مشابه، ويُستدل
على هذا بحديث (عصابتان من أمتي حرّرهما الله من النار) الذي سبق ذكره في الشرح،
إذ صرّح الحديث الشريف بوجود عصابة أخرى إلى جانب العصابة التي تكون مع عيسى ابن
مريم ﷺ، والتي عبّرت عنها أحاديث الطائفة المنصورة
التي جرى ذكرها في الفصل الأول.
ويستدل بعدم الحصر من خلال ورود الألفاظ دون
تعريف، قال: طائفة، وعصابة، وأمة، وأناس، كما قال منصورة، وظاهرين، وقاهرين، ولم
يقل الطائفة المنصورة، وغيرها، وهذا غرضه الإخبار بوجودها على صفتها، ولا يفيد حصر
النصر والظهور بها وحدها، ولا يمكن حتى الجزم أنها الوحيدة المستمرة، وإن كان
الاستمرارية وعدم الانقطاع ميزتها الأصيلة، ومرجع الأمر كله -أي الجزم بوجودها
ووجود غيرها- إلى ما أخبر به الله عز وجل في كتابه أو النبي ﷺ من خلال الأحاديث الشريفة.
قاهرون، وظاهرون، ومنصورون
وُصفت الطائفة بأن أفرادها منصورون، وقاهرون
لعدوهم، وظاهرون عليه، وبأنهم ظاهرون على الحق كذلك. وجميعها يحتمل معنى الغلبة
والانتصار، مع فروق تعزز المعنى الإجمالي لصفات الطائفة المنصورة.
فـالقهر هو «الغلبة والأخذ من فوق»[22]، أي من مكان عزة، وعدوهم خاضع وذليل، «وتقول: أخذتهم قهرًا، أي: من غير رضاهم»[23]، فهم حين يقهرون عدوهم الذليل أمامهم،
يرغمونه ويجبرونه على فعل ما لا يرضاه ولا يرغب في فعله، وقد يكون الفشل، أو
الخضوع، أو التراجع، أو الاستسلام النهائي والهزيمة، ومهما كان العدو قويًا فإنه
لا ينال منهم ما يريده ويصبو إليه، وإن كان قادرًا على فعله، بل يبقى في حسرته
وسخطه مرغمًا ومجبرًا.
ويكون قهر العدو نتيجة القوة، أو العناد، أو
الصبر الطويل، أو حسن استخدام الأدوات المتوفرة بفعالية، ولا يخضع بالضرورة لمعيار
القوة فقط، وقد سمّت العرب -في القرن الثامن عشر الميلادي- مدينة عكا بقاهرة
نابليون رغم أنها كانت محاصرة. وجاء القهر في الروايات ملازمًا للأعداء، كما في
قوله: (لعدوهم قاهرين)[24]،
وقوله: (على من يغزوهم قاهرين)[25].
وأما الظهور فله معانٍ عدة، كلها مرادة في السياق، فيقال: «ظهر ظهورًا: تبين، وظهر علي: أعانني. وظهر به، وعليه: غلبه»[26]، وفي قوله عز وجل: ﴿فَأَصۡبَحُوا۟ ظَـٰهِرِینَ﴾ (الصف: 14). قال ابن منظور: «أي غالبين عالين، من قولك: ظهرت على فلان أي علوته وغلبته. يقال: أظهر الله المسلمين على الكافرين أي أعلاهم عليهم».[27]
وجاء في الروايات (ظاهرين على الحق)[28]،
و(على الدين ظاهرين)[29]،
و(ظاهرة على الدين)[30]،
و(ظاهرين على الناس)[31]،
و(ظاهرين على من ناوأهم)[32] أي عدوهم، وجاء في روايتين اثنتين (ظاهرين على من خالفهم)[33]،
كما أنني لم أجد (ظاهرين على عدوهم) في الروايات، بهذا اللفظ، وإن كان من معاني
الظهور الغلبة على الأعداء.
فأما الظهور على الحق فبمعنى مستعينين
بالحق، ومعاونين لأنفسهم ولغيرهم به، قال الكرماني: «ظاهرين على الحق: معاونين، أي: عائنين به»[34]، ويدخل في هذا المعنى نصرة الحق، والوقوف
معه، والإعانة على إحقاقه، وقد يُحمل الظهور على معناه الأول، فتصبح ظاهرين بالحق
أي بائنون به، وبه معروفون ومشهورون.
وظهورهم على من ناوأهم، ومن عاداهم، بمعنى
الظفر والانتصار على عدوهم، وغلبته وقهره، وأما الظهور على الناس فبمعنى التفضيل
والإعلاء عليهم، وتشريفهم على الناس، أو هو الانتصار عليهم في حال كانوا مناهضين
ومناوئين لهم.
وفي معنى التفضيل، قال ابن عاشور في تفسير
قوله تعالى: ﴿لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ﴾ (التوبة: 33). «وفعل الإظهار إذا عُدّي بـ (على) كان مضمنًا
معنى النصر، أو التفضيل»[35]، وقال في تفسيره للآية التاسعة من سورة
الصف: «والإِظهار:
النصر، ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي»[36].
و(النصر) غير الانتصار، وإن كانا من جذر
واحد، ويشيع إطلاقهما على الفوز بالمعارك، وورد وصف الطائفة في الحديث بأنها
منصورة، ولم يرد منتصرة، فالنصر أعم من مجرد الانتصار الذي يعني الانتقام من العدو
وهزيمته، قال ابن منظور: «يكون الانتصار من الظالم الانتصاف والانتقام، وانتصر منه: انتقم»[37]، أي أعاد الحقوق من العدو، واسترجعها، وأما
النصر فهو تقديم الدعم والمساعدة، وهو «إعانة المظلوم»[38] ضد من يظلمه ويناوئه ويخاصمه، وتخليصه من
ظالمه، ونجدته، وتشمل إعانة المظلوم ودعمه كثيرًا من الأشياء، وتكون على أكثر من
وجه منها الانتصار له من عدوه، والانتقام منه.
كما أن «الانتصار والاستنصار: طلب النصرة»[39]،
فلو قلنا إن الطائفة منتصرة، فهذا يعني أنها تأخذ حقها وتنتقم من عدوها، هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى أنها تطلب النصرة والدعم، بينما يعني القول إنها منصورة أن
النصرة والدعم قد وقعا فعلًا، وأصبحا أمرًا واقعًا لا أمرًا مطلوبًا، أي أنها
مُعانة على الحق الذي تحمله، ومؤيَّدة، ومحميّة من الله أولًا ثم من المسلمين.
قائمة، وقوّامة
ذكرت الروايات بأن الطائفة (قائمة بأمر
الله)[40]،
و(قائمة على أمر الله)[41]،
و(قائمة على الحق)[42]،
و(قوّامة على أمر الله)[43]،
وأمر الله دينه، وقوّام صيغة المبالغة من قائم، اسم الفاعل من قام يقوم قومًا
وقيامًا وقومة وقامة، و«القيام نقيض الجلوس»[44].
والقائم بالأمر والقائم عليه قريبان في
المعنى، والقوّام: الحسن القيام بالأمور، قال ابن منظور: «والقائم بالدين: المستمسك به الثابت عليه...
وكل من ثبت على شيء وتمسك به فهو قائم عليه... قال ابن بري: والقائِمُ على
الشيء الثابت عليه، وعليه قوله تعالى: ﴿مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ أُمَّةࣱ قَاۤئمَةࣱ﴾؛ أي مواظِبة على الدين ثابتة»[45].
ووقع وصف القيام، في معظم الروايات من طريق
حابر بن سمرة رضي الله عنه، على الدين وأمر الله، كما في عبارة (لن
يبرح هذا الدين قائمًا)[46]،
وجاء في رواية وحيدة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا)[47]،
والقيام والاستقامة: الاعتدال والاستواء بلا اعوجاج. قال ابن منظور: «الاستقامة: الاعتدال... وقام الشيء
واستقام: اعتدل واستوى»[48]، وقيام الدين، واستقامته، والقيام عليه،
وبه، جميعها يقتضي التمسك به، والمواظبة عليه في جميع ما أمر، ووفق ما أمر، في
جميع شؤون الحياة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
واستخدمتْ صيغة اسم الفاعل واسم المفعول في
الحديث للتعريف بأوصاف الطائفة المنصورة، حيث وُصفت بأنها قائمة وقوّامة على أمر
الله، وبأن أفرادها ظاهرون على الحق، وقاهرون لعدوهم، ومنصورون، وأن الدين قائم
نتيجة لقيامها عليه، واستخدام هاتين الصيغتين يشابه الفعل المضارع بالدلالة على
الحال والاستقبال، ويفيد أيضًا تكرار الأحداث -الظهور والقهر والقيام والنصر- حتى
صارت صفة لها، واستحقت الطائفة أن توصف بهذه الأوصاف.
يقاتلون على
ولكن الحال مختلف في قتال الطائفة على الحق،
إذ تغيرت الصيغة الصرفية إلى استخدام الفعل المضارع في وصف الطائفة، حيث وُصفت -في
روايات كثيرة- بأنها تقاتل على الحق والدين، ولم أقف على رواية تستخدم غير الفعل
في تأكيد وصف الطائفة بأنها مقاتلة، فقد ورد بأنهم: (يقاتلون على الحق)[49]،
و(يقاتلون على أمر الله)[50]،
و(الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة)[51]،
وغيرها من الألفاظ التي لا تخرج عن استخدام الفعل المضارع لإبراز جهاد الطائفة
وقتالها على الحق.
والقتال من القتل وهو الإماتة وإزهاق الروح،
فيقال: يقاتل مُقاتَلة وقِتالًا وقِيتالًا[52]،
أي يحارب ويعادي، ووصف بذلك لمظنة وقوع القتل، والقتال يقتضي المشاركة والمفاعلة
بين طرفين في المحاربة والمقاتلة، وليس من طرف واحد، قال ابن منظور: «القِتال هو
من المقاتلة والمحاربة بين اثنين»[53]،
وحرف الجر (على) -في النصوص السابقة- بمعنى المعية والمصاحبة، أي أنهم يقاتلون مع
الحق والدين، وفي صفهما، ويدافعون عنهما.
الحق، والدين، والأمر
جاءت هذه الألفاظ كلها في الحديث إما معرفة
بـ (ال) التعريف: الحق، والدين، والأمر، أو مضافة كقوله: أمر الله، أو مسبوقة باسم
الاشارة (هذا) كقوله: هذا الأمر، مما يدل على أنها معروفة عند المخاطب.
و(الحق) واحد الحقوق، وكل ما ثبت وأصبح يقينًا
-بلا شك أو إنكار- هو حق، فهو «من أسماء الله تعالى، أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر
المقْضِـيُّ، والعدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت، والصدق، والموت»[54]. وهو نقيض الباطل، وفيه معنى الثبات
واليقين، ويقال «الأمر يَحُق ويَحِق حَقَّة: وجَبَ ووقع بلا شك»[55].
وقال الجرجاني إن الحق «في اللغة: هو الثابت الذي لا يُسوّغ إنكاره،
وفي اصطلاح أهل المعاني: هو الحُكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان
والمذاهب، باعتبار اشتمالها على ذلك»[56].
والحق المراد في الحديث الشريف هو ما جاء به
محمد ﷺ من الوحي والدين، والأمر والنهي، ووردت
كلمة الحق في سياق أنهم ظاهرون عليه، وأنهم يقاتلون عليه، ولم ترد في سياق غيره في
الحديث.
و(الدِّين) الملة والديانة، وأصله اللغوي
الخضوع والطاعة، ومعناه متعلق بالقيام بالأعمال التي يفعلها المرء بشكل مستمر
ومتكرر، وما ينتج عنها من جزاء ومكافأة، وذلك كالعادات، والواجبات اليومية، وأداء
الطاعات. قال ابن منظور: «والدين: الجزاء، وفي حديث ابن عمرو: (لا تسبّوا السلطان، فإن كان لا
بـدَّ فقولوا اللهم دِنهم كما يدينونا) أي: اجزِهم بما يعاملونا به. والدين: الحساب،
ومنه قوله تعالى: ﴿مَـٰلِكِ یَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾، وقيل: معناه مالك يوم الجزاء. وقوله
تعالى: ﴿ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُۚ﴾، أَي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي،
والدين: الطاعة، وقد دِنْته ودِنْتُ له أي أطعته... والدين: العادة
والشأن، تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي»[57].
وفي الاصطلاح: «وضعٌ إلهيٌ يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما
هو عند الرسول ﷺ»[58]. وربط الجرجاني بين الدين وبين الطاعة
وتنفيذ الأوامر الشرعية، وذلك في سياق تفريقه بين الدين والملة والمذهب، فقال: «والدين والملّة متحدان بالذات، ومختلفان
بالاعتبار؛ فإن الشريعة من حيث إنها تُطاع تسمى: دينًا، ومن حيث إنها تُجمع تسمى:
ملة، ومن حيث إنها يُرجَع إليها تسمى: مذهبًا، وقيل: الفرق بين الدين، والملة،
والمذهب: أن الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب
إلى المجتهد»[59].
فالدين إذن -وفق الجرجاني- منسوب إلى الله،
ومتعلق به، والدَيَّان اسم من أسماء اللَّه ﷻ، وقيل معناه: «القهّـار، وقيل: الحاكم والقاضي، وهو
فعّـال، من دان الناسَ أي قهرهم على الطاعة. يقال: دِنْتُهم فدانوا أي قهرتُهم
فأطاعوا»[60]، والدين الذي ارتضاه اللهُ ﷻ للناس الإسلام، ولا يُقبل من الإنسان غيره، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ (آل عمران: 19).
وجاءت كلمة (الدين) في الروايات بسياق يصف
الدين باستمرارية القيام كما جاء به النبي ﷺ، دون انقطاع أو تحول أو تحريف، كما في
قوله: (لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين)[61].
وفي قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين)[62]،
وقوله: (لا تزال
طائفة من أمتي ظاهرة
على الدين عزيزة)[63].
ومثلها كلمة (الأمر)، إذ ورد في روايات
أخرى: (لا يزال هذا الأمر قائمًا تقاتل عليه عصابة)، و(هذا الأمر ظاهرًا)، و(أمر
هذه الأمة مستقيمًا)، و(لا يزال من أمتي
أمة قائمة بأمر الله)، و(قوّامة على أمر الله)[64]،
وتشابه السياق واضح في
ورود كلمة الأمر وكلمتي الدين والحق، مما يبين حقيقة المراد من كلمة (الأمر) وهو
الإسلام دين الله، والحق الذي جاء به.
و(الأمر) في اللغة الطلب: «نقيض النهي»[65]، والجمع أوامر، وجاء في الحديث على معنيين:
فالأول، وهو ما ذكرنا أمثلته، بمعنى ما أمر الله ﷻ به من شرع ودين، والثاني بمعنى
وعد الله، وما قضى به للناس، وذلك في قوله ﷺ: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، و(حتى
يأتيهم أمر الله) على اختلاف الروايات، وهي كثيرة في الحديث، وبيّنتْ روايات أخرى
حقيقة الأمر بمعناه الثاني بأنه يوم القيامة، وظهور أشراطه الكبرى: كالريح التي
تقبض أرواح المؤمنين، ونزول نبي الله عيسى ابن مريم ﷺ، والدجال، فجاء في بعضها: (إلى
يوم القيامة)، و(حتى تقوم الساعة)، و(فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ
بنا)، و(حتى يقاتلوا الأعور الدجّال)[66].
حتى يأتي
قال الفيروزآبادي: «حتى: حرف للغاية، وللتعليل، وبمعنى
(إلاّ) في الاستثناء»[67]، ويستخدم لانتهاء الغاية المكانية أو
الزمانية، وهذا ما ينطبق على الحديث إذ تعني (إلى أن)، أي هم كذلك إلى أن يأتي أمر
الله، ويؤيده الرواية التي فيها (إلى يوم القيامة)، أي إلى أن تنقضي أشراط يوم
القيامة جميعها، والتي آخرها ريح المسك كما جاء في الأحاديث.
عدوهم، ومن ناوأهم
والمناوئ هو العدو، إلّا أن المناوأة تحمل
معنى التهيؤ للمواجهة والقتال، قال ابن منظور: «ناوأتُ الرجل مُناوَأةً ونِوَاءً:
فاخَرتُه وعادَيْتُه... من ناءَ إليك ونُؤتَ إليه، أي: نهضَ إليك ونهضتَ
إليه»[68]، وقال: «النوء والمناوأة: المعاداة، وفي الحديث في
الخيل: (ورجل ربطها فخرًا، ورياءً، ونواءً لأهل الإسلام)، أي معاداةً لهم. وفي
الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من ناوأهم)، أي: ناهضهم وعاداهم»[69].
و(العدوّ) جمعه أعداء، وهو «ضد الصديق، يكون للواحد، والاثنين،
والجمع، والأنثى، والذكر بلفظ واحد»[70]. وهو الظالم المجاوز للحد، فيقال: «قد عَدَا فلان عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوَانًا
وعَدَاءً، أي: ظلم ظلمًا جاوز فيه القَدْر»[71].
ولا ترى في الحديث لفظ (عدوهم) إلا مع صفة
القهر له: (لعدوهم قاهرين)، وجاء قوله: (من ناوأهم) بكثرة مع صفة الظهور عليه:
(ظاهرين على من ناوأهم)، فعدو الطائفة سيفشل مقهورًا ومجبورًا بتنفيذ أهدافه
ومطالبه الظالمة التي يجاوز فيها الحد والحق، وسيفشل في حال بلغ الأمر حد المواجهة؛
لأن ديدنها الظهور على من يناوئها، وينهض لقتالها، ففي روايات لأبي هريرة: (تقاتل
أعداء الله)، و(تقاتل أعداءها)[72].
لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم
تكرّرت ألفاظ (خالفهم) و(خذلهم) في الروايات
لتخبر عما تلاقيه الطائفة من المخالفة والخذلان من أناس في محيط مجتمعها، وجاء ذكر
التكذيب -وهو أشد من سابقيه- في رواية للبخاري من طريق معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
(لا يضرهم من كذّبهم ولا من خذلهم)[73]،
ولم يرد ذكر التكذيب في غيرها، فيما اطلعتُ عليه.
و(التكذيب) ضد التصديق، ويستخدم للأقوال
والأفعال. ويقال: «كذّبتُه: نسبته إلى الكذب صادقًا كان أو كاذبًا»[74].
و(الخذلان) «ترك من يُظنّ به أن ينصر نُصْرته، ولذلك
قيل: خَذَلتْ الوحشيّة ولدَها، وتخاذلتْ رِجْلا فلان»[75]، وقال ابن الأثير: «الخَذْل: ترك الإغاثة»[76]، فهو يأتي إذن ممن تتوقع أن يقدم لك العون
والمساعدة عند الحاجة لها، ممن تثق به ويمكن أن تعتمد عليه لحسن العلاقة بينكما،
والذي يكون أخًا وصديقًا.
وفي (المخالفة) قال الأصفهاني: «الاختلافُ والمخالفة: أن يأخذ كلّ واحد
طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعمّ من الضدّ؛ لأن كل ضدّين
مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين، ولمّا كان الاختلاف بين النّاس في القول قد
يقتضي التّنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة»[77]، والخِلاف والاختلاف ضد الاتفاق، وقد تصدر
-كذلك- من القريب والصديق، وقد تكون بين أبناء المجتمع الواحد، وهي أدنى من
التخاصم والنزاع.
والطائفة لا يضرهم هؤلاء كما أخبر الحديث،
أي لن ينالها منهم، مهما كثروا، ما يعيق ثباتها على الحق، ومواجهتها ضد أعدائها،
قال الأصفهاني في قوله ﷻ: ﴿لَن یَضُرُّوكُمۡ إِلَّاۤ أَذࣰىۖ﴾ (آل عمران: 111)، وقوله: ﴿لَا یَضُرُّكُمۡ كَیۡدُهُمۡ شَیۡـًٔاۗ﴾ (آل عمران: 120): «ينبههم
على قلّة ما ينالهم من جهتهم، ويؤمّنهم من ضَرَرٍ يلحقهم»[78]. وبيّن الأصفهاني أن الضرّ إما أن يكون
داخليًا: في النفس، والعقل، والبدن، وإما خارجيًا: في كسب المال، وقلة الجاه،
فقال: «الضُرّ: سوء
الحال، إما في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة، وإما في بدنه لعدم جارحةٍ ونقص،
وإما في حالةٍ ظاهرةٍ من قلّة مال وجاه»[79].
وجاء في عدد من الروايات (لا يبالون)[80] من خالفهم أو خذلهم، أي أن الطائفة لا يكترثون بهم كناية عن قلة ما يصيبهم منهم من
أذى.
إلا ما أصابهم من لأواء
وللوقوف على مفهوم اللأواء في حديث الطائفة
المنصورة، أذكر حديثين شريفين، يظهر من سياقهما، وقصتهما، ما تتضمنه هذه اللفظة من
معانٍ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسولَ الله! كيف الصلاح بعد
هذه الآية: ﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ﴾ (النساء:
123)؛ وكل شيء
عملناه جُزينا به؟ فقال: «غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست
يصيبك اللأواء؟» قال: قلت: بلى. قال: «هو ما تُجزون به»[81].
وعن أبي
سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي
الحَـرَّة[82]، فاستشاره
في الجلاء[83] من المدينة، وشكا إليه أسعارها، وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على
جهد المدينة ولأوائها، فقال له: ويحك لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يصبر أحد على لأوائها فيموت؛
إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة إذا كان مسلمًا»[84].
حدثت القصتان في مجتمع المدينة المنورة،
ويظهر منهما أن اللأواء هي شدة الضيق الذي يصيب الناس في حياتهم من المرض والحزن
وغلاء الأسعار وكثرة العيال، وقد ذكر ابن منظور هذين الحديثين، وقال: «اللأواء: الشدة وضيق المعيشة، ومنه
الحديث: (قال له ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟) ومنه الحديث الآخر: (من صبر
على لأواء المدينة). واللأواء المشقة والشدة، وقيل: القحط، يقال: أصابتهم لأواء
وشَصاصاء، وهي الشدة، قال: وتكون اللأواء في العلّة»[85].
واللأواء أقصى ما سيلحق بالطائفة المنصورين
من ضرر وأذى من قبل أعدائهم، ومخالفيهم، وهي ضرر قد يلحق بالناس حتى في ظل ظروف
حياتية اعتيادية أو متكررة مع البشر، وأشد ما نجد في اللغة العربية لمعنى اللأواء
هو القحط[86]،
واحتباس المطر.
أهل الغرب
والغرب لغة جهة المغرب، مقابل الشرق. وهو أيضًا
الدلو، والحدّة والشدّة، ودمعة العين وغيرها، واختلف العلماء في المعنى المراد في
الحديث وما هو كناية عنه؛ فذهب كثيرون إلى أن الأول أظهر، قال ابن تيمية: «والنبي ﷺ تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية، فغربه
ما يغرب عنها، وشرقه ما يشرق عنها.. وكان أهل المدينة يسمّون أهل الشام أهل الغرب،
ويسمّون نجد والعراق أهل الشرق... ولهذا قال أحمد بن حنبل: (أهل الغرب) هم أهل
الشام»[87].
وذكر ابن حجر أن علي بن المديني، قال:
أن المراد بالغرب الدلو، وذلك كناية عن العرب «لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم»[88]. ومن الأحاديث التي ورد فيها الغرب بهذا
المعنى حديث طويل في الزكاة وفيه: «ما سُقي بالغرْب ففيه نصف ا لعُشْر»[89].
ولكن ابن حجر استدرك فقال: «لكن في حديث معاذ (وهم أهل الشام)،
فالظاهر أن المراد بالغرب البلد؛ لأن الشام غربي الحجاز»[90]، ورأى أن ما «وقع في بعض طرق الحديث (المغرب) يرد تأويل
الغرب بالعرب»[91].
وذهب ابن رجب الحنبلي إلى أن تفسير (أهل
الغرب) بالعرب يعيده إلى التفسير الأول وهو الشام، فقال: «وقد وردت الأحاديث أن العرب تهلك في آخر
الزمان، فلا يبقى منهم بقية إلا بالشام، فيرجع الأمر إلى تفسير الحديث بأهل الشام»[92].
وقال ابن الأثير: «أراد بالغرب الحدة والشوكة، يريد أهل
الجهاد»[93]، ومثله قال القاضي عياض[94] أن المراد «أهل
الحدة والاستنصار في الجهاد ونصرة دين الله»، وأحسن الحافظ ابن حجر في جمعه لأقوال
العلماء وما جاء في الروايات فقال: «يمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم
يكونون ببيت المقدس وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة
وجد»[95].
ويظهر من دراسة نص الحديث أن هذه الدلالات:
الشام، والجهاد، والعرب جميعها مرادة، فكلها تدور في فلك واحد، وإن كان بعضها أرجح
من الآخر، فقد صرّح الحديث بالشام في عدة روايات، والكلام عن حدة الطائفة وقتالها وجهادها
واضح الدلالة في روايات كثيرة، والعرب ليسوا بعيدين عن هذا كله، فالشام أرض عربية،
وأهل الشام أو أهل الغرب هم العرب إجمالًا، وهم العنصر الأكثر تأثيرًا في تاريخ
الإسلام، وقادوا كثيرًا من الفتوح من خلال الجهاد، ودورهم في نهوض الأمة الآن دور
أساسي وحيوي، وسعت الدول الاستعمارية في مواجهتها ومؤامرتها على الإسلام إلى تقسيم
العرب، وهو واقعنا اليوم.
لعل (أهل الغرب) توجز كثيرًا مما يمكن أن يقال في أمر الطائفة المنصورة، وهذا من عجائب الحديث الشريف، وأجدني أميل إلى جمع ابن حجر لأقوال العلماء في مرادها، والله أعلم، وسيكون لنا وقفة أخرى في ذكر أقوال العلماء في دلالات هذه المفردة، وذلك في مناقشة أقوالهم في تعيين مكان الطائفة إن شاء الله.
[1] ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: وبهامشه كتاب إعراب الشواهد القرآنية، تحقيق: محمد جعفر الكرباسي، قم - إيران، مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية، ط 1، (1428 هـ). كان وأخواتها، ص: (1/126).
[2] الحازمي، أحمد بن عمر، فتح رب البرية في شرح نظم الآجُرُّومية: للعلامة محمد بن آبَّ القلاوي الشنقيطي، مكة المكرمة، مكتبة الأسدي، ط 1، (1431 هـ/ 2010 م). ص: (362). والحازمي هو أحمد بن عمر بن مساعد، درس بدار الحديث جامعة أم القرى بمكة المكرمة، على كثير من العلماء منهم: محمد الخضر الشنقيطي، وسيدي الحبيب الشنقيطي، محمد علي آدم الإثيوبي، ومحمد أمين الهرري، وغيرهم، له شروحات على كثير من المتون العلمية، منها: منها ألفية بن مالك.
[3] المرجع السابق، ص: (363).
[4] ابن بطال، علي بن خلف، شرح صحيح البخاري، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، المملكة العربية السعودية، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، ط 2، (1423 هـ/ 2003 م). كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين، ص: (1/155).
[5] ابن منظور، جمال دين محمد بن مكرم، لسان العرب، المملكة العربية السعودية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، طباعة: دار النوادر - الكويت، (1431 هـ/ 2010 م). حرف الفاء، فصل الطاء، مادة: طوف، ص: (11/130).
[7] الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط 8، (1426 هـ/ 2005 م). باب الميم، فصل الهمزة، مادة: أمّة، ص: (1076).
[10] ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، المملكة العربية السعودية، دار طبية للنشر والتوزيع، ط 2، (1420 هـ/ 1999م). ص: (2/91).
[13] الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم، ط 4، (1430 هـ/ 2009 م). حرف النون، مادة نوس، ص: (829).
[18] المرجع السابق. وانظر: ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: أحمد بن محمد الخراط، دولة قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1. حرف العين، باب العين مع الصاد، مادة: عصب، ص: (6/2779).
[19] النسائي، سنن النسائي، مرجع سابق، كتاب الجهاد، باب: غزوة الهند، حديث: (3177)، ص: (438). وهو عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ. وانظر: الألباني، صحيح سنن النسائي، مرجع سابق، حديث: (3175)، ص: (2/397). وهو في السلسلة الصحيحة، حديث: (1934).
[20] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث: (1763)، ص: (781).
[33] إحداهما في صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: قول الله تعالى: «فأن لله خمسه وللرسول»، حديث: (3116)، ص: (633). والأخرى في: الطبري، تهذيب الآثار، مرجع سابق، مسند عمر، السفر الثاني، (35) ذكر خبر آخر من حديث عمر، ذكر من وافق عمر في روايته، حديث: (1149)، ص: (2/819). وكلاهما من طريق معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وانظرهما قي ملحق الروايات والألفاظ من هذا البحث، الجدول الخامس: معاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، حديث: (5) و(35).
[34] الكرماني، محمد بن يوسف، صحيح البخاري بشرح الكرماني، بيروت – لبنان، دار إحياء التراث، ط 2، (1401 هـ/ 1981 م). كتاب الاعتصام، باب: قول النبي لا تزال طائفة من أمتي، حديث: (6867)، ص: (25/58).
[35] ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، (1984 م). سورة التوبة: آية (33)، ص: (10/173).
[42] انظر ملحق الروايات والألفاظ، جدول معاوية بن أبي سفيان، حديث: (24)، و(37)، وجدول سلمة بن نفيل، حديث: (6)، وغيرها.
[56] الجرجاني، علي بن محمد، معجم التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، القاهرة، دار الفضيلة للنشر والتوزيع. باب الحاء، الحاء مع القاف، ص: (79).
[75] المرجع السابق، حرف الخاء، مادة خذل، ص: (277). وخذول الأرجل يكون عند التعثر في المشي بسبب ضعف أو عاهة أو سكر ونحوها.
[76] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مرجع سابق، حرف الخاء، باب الخاء مع الذال، مادة: خذل، ص: (3/1131).
[81] مسند أحمد بن حنبل، الأرناؤوط، مسند أبي بكر الصديق، حديث: (68)، ص: (1/229). وقال الأرناؤوط: صحيح بطرقه وشواهده. وانظر الحديث في: الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح الترغيب والترهيب، الرياض، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط 1، (1421 هـ/ 2000 م). كتاب الجنائز وما يتقدمها، باب: الترغيب في الصبر سيّما لمن ابتليَ في نفسه أو ماله...، حديث: (3430)، ص: (3/339).
[82] وقعة الحَرَّة هي فتنة مشهورة بين يزيد وأهل المدينة، نُهبت فيها المدينة سنة (63 هـ)، وقعت في حرّة واقِم: إحدى حرّتي المدينة، وهي الشرقية منهما. والحرّة هي صخور سوداء تكسوا سطح الأرض بفعل الحمم والطفح البركاني.
[86] القحط أو الجفاف أو الجَدْب كارثة طبيعية تصيب الناس في منطقة معينة ولا سيما الذين في الصحراء، نتيجة لنقص الموارد المائية، وانخفاض هطول المطر عن المعدل الطبيعي له، أو قد يكون بسبب تدني مستويات مياه الأنهار لعدم هطول الأمطار عند منابعه.
[89] أبو داود، سنن أبي داود، مرجع سابق، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، حديث: (1572)، ص: (232). وانظر الحديث في صحيح سنن أبي داود للألباني، مرجع سابق، حديث: (1572)، ص: (1/434).
[92] ابن رجب الحنبلي، مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي، مرجع سابق، رسالة فضائل الشام، الباب الخامس: فيما ورد أن الطائفة المنصورة بالشام، ص: (3/205).
[93] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مرجع سابق، حرف الغين، باب الغين مع الراء، مادة: غرب، حديث: (11361)، ص: (7/2993).
[94] القاضي عياض، عياض بن موسى، مشارق الأنوار على صحاح الآثار في شرح غريب الحديث، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 2، (1433 ه/ 2012 م). حرف الغين، الغين مع الراء، مادة: (غ ر ب)، ص: (2/130).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق