المطلب الثالث: زمن ورود الحديث ومناسبته..
يُطمئن الحديثُ المسلمين بأن الإسلام لا
يزال قائمًا بعقيدته وشريعته بجميع أحكامه لا ينقص منها شيء إلى يوم القيامة،
ويلزم، والحال كذلك، أن يكون الدين قد اكتمل فعلًا، وصار له مجتمع مطمئن يلتزم به،
لتأتي البشارة بأن هذا الدين الذي صبرتم -أيها المسلمون- وصابرتم على إقامته ونشره
وجاهدتم في سبيله باق ودائم على هذا الشكل ما دامت الحياة على هذه الأرض.
لقد كان حديث الطائفة المنصورة من وصايا الرسول ﷺ المهمة لأمته، ونطق به خلال فترة انتصار وظهور الدعوة الإسلامية قبيل وفاته ﷺ، وفي أكثر من موقف ومناسبة، وهذا يدل عليه كثرة الرواة من الصحابة، واختلاف رواياتهم بين الإيجاز والاستفاضة
هل يعقل أن نقول بأن زيدًا لا يزال متفوقًا
في دراسته، ونتيجته لم تعلن بعد، وليس له سجل من النتائج الكافية، أو أن نقول إن
البناء لا يزال قائمًا، بينما لا يزال العمال في طور حفر الأساس، ألا يجدر أن تكون
أركان الإسلام الخمس قد فُرضت، ليبشر الرسول ﷺ المسلمين باستمرار قيام الدين، ثم هل يمكن
أن يبشرهم ﷺ بأنهم لا يزالون ظاهرين، وهم لا يزالون تحت
تهديد المشركين وأهل الكتاب في المدينة وخارجها، والسؤال: متى اكتمل الدين؟ ومتى
ظهر الإسلام على أعدائه؟
اكتمل الدين في آخر عهد النبي ﷺ، وكان نزول آية إكمال الدين، وهي من آخر
الآيات التي نزلت، إيذانًا بانتقال النبي إلى الرفيق الأعلى[1]،
قال تعالى: ﴿ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ﴾ (المائدة: 3)، نزلت هذه الآية في السنة العاشرة للهجرة،
يوم الحج الأكبر، يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي ﷺ واقف بعرفات[2].
والظاهر أن زمن ورود الحديث كان خلال هذه
الفترة المتأخرة من حياة النبي ﷺ، وتمتد على أقل تقدير من السنة التاسعة
للهجرة، بعد غزوة تبوك التي أظهر الله فيها هيبة الإسلام في الجزيرة العربية وما
حولها بعد فرار جيش الروم، إلى حين وفاته ﷺ في أول السنة الحادية عشرة.
ودليل ذلك، ما جاء في بعض روايات الحديث، أن
رجلًا من الصحابة، قال: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا:
لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله ﷺ بوجهه، وقال: «كذبوا، الآن، الآن
جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب
أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها
الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحَى إليّ أني مقبوض غير مُلبَّث، وأنتم تتبعوني
أفنادًا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام»[3].
وخير برهان على أن زمن وروده جرى خلال
السنوات الأخيرة من حياة النبي ﷺ قوله: (وهو يوحى إليّ أني مقبوض غير
مُلبّث)، مشيرًا إلى قرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى. ومعلوم في السيرة النبوية أن
إذالة بعض الصحابة لخيولهم، واستخدامها للزراعة بدلًا من الحرب، وتوقفهم عن
العناية بها إعدادًا للحرب، وإلقائهم السلاح، وادعائهم توقف الجهاد ووضع الحرب
أوزارها، كان بعد غزوة تبوك وظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وهروب جيش الروم
أمام جيش المسلمين دون أن تحدث معركة ولا قتال.
وأتى ابن سعد على ذكر هذه القصة في (الطبقات
الكبرى)، وقال: «انصرف رسول الله ﷺ من تبوك، ولم يلق كيدًا، وقدم المدينة في
شهر رمضان سنة تسع... وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم، ويقولون: قد انقطع الجهاد،
فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنهاهم وقال: (لا تزال عصابة من أمتي
يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال)»[4].
إذن، لقد كان حديث الطائفة المنصورة من
وصايا الرسول ﷺ المهمة لأمته، ونطق به خلال فترة انتصار
وظهور الدعوة الإسلامية قبيل وفاته ﷺ، وفي أكثر من
موقف ومناسبة، وهذا يدل عليه كثرة الرواة من الصحابة، واختلاف رواياتهم بين الإيجاز
والاستفاضة، واختلاف القصة في بعضها، وتفرّد بعضهم في بعض الألفاظ، كقوله: (أهل
الغرب)، إذ نجدها بكثرة في روايات سعد بن أبي وقاص دون غيره، وإن وردت مرتين فقط
من طريق المغيرة بن شعبة[5].
ويومئ بقوله: (الآن، الآن جاء القتال) إلى أن مهمة الرسالة الإسلامية أمام مرحلة جديدة رغم ظهورها وانتشارها في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وأن أمام الصحابة والمسلمين طريق طويل من الجهاد بعد مسيرة حافلة به
ويظهر أن الروايات، معظمها أو جميعها، وردت خلال هذه الفترة، فالمضمون
والسياق واحد، وحتى الروايات التي تكلمت عن الشرك والفتن، فقد اعتبرتها تهديدًا
مستقبليًا، وليس خطرًا واقعًا على الأرض، مما يشير أيضًا إلى ظهور الإسلام في زمن
ورود الحديث.
مناسبة ورود الحديث
ويظهر من رواية الحديث التي سقته آنفًا
للكشف عن زمنه، مناسبة ورود حديث الطائفة المنصورة، وتقابل مناسبة ورود الحديث عند
المحدِّثين سبب نزول الآية عن المفسرين، وتعتبر من أهم القرائن التي تعين على فهم
معنى الحديث الشريف، وتزيل الإشكال الناتج عن عموم لفظ الحديث أو خصوصه، أو
اشتماله على أكثر من دلالة، وذلك أن التدقيق في ظروف القصة أو الحادثة التي ذكر
النبي ﷺ الحديث على إثرها يعين على تحديد مقصود
الحديث، ويوجّه الضوء للمعنى الصحيح، فالعلم بالسبب يُوَرِّث العلم بالمسَبَّب،
ويسوق لنتيجته.
ولقد أنكر رسول الله ﷺ بشدة على من ادعى أن الجهاد توقف بعد فرار
جيش الروم دون مواجهة أمام المسلمين في غزوة تبوك، وأبى على الناس الذين أذالوا
الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها. وفي الحديث: (أقبل
رسول الله ﷺ بوجهه)، لجسامة الأمر. وقال: (كذبوا، الآن،
الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق...) الحديث.
ويدور الحديث على حتمية استمرار القتال دفاعًا عن الحق، والجهاد ضد أعداء الله، وعدم الركون لهم، ويومئ بقوله: (الآن، الآن جاء القتال) إلى أن مهمة الرسالة الإسلامية أمام مرحلة جديدة رغم ظهورها وانتشارها في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وأن أمام الصحابة والمسلمين طريق طويل من الجهاد بعد مسيرة حافلة به، إذ خاضوا كثيرًا من الغزوات قبل ذلك.
ولعل بعضهم قد ظن أن انتصار الإسلام في الجزيرة العربية، وزوال خطر المشركين فيها يعني غياب أي تهديد حقيقي ضد الرسالة الإسلامية، وتوقف القتال في سبيل الله، وكأن الرسالة قد بلغت أكبر فتح ممكن لها، ولكن الله ﷻ بعث رسوله ﷺ للناس كافة، مما يعني أن ظهور الإسلام في الجزيرة العربية يمهد الطريق أمام العرب والمسلمين للقيام بواجب عالمي ابتدأ من حينه، بعد الفتح الأعظم، فتح مكة، وأنهم أمام مواجهة ضرورية للطُغَم والمجموعات الحاكمة للبلاد الظالمة المجاورة، الروم والفرس.
[1] ذكرت الروايات بكاء أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- عند سماعهما هذه الآية، لما فهموه من دلالتها على قرب أجله ﷺ. وقال عمر: «أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كَمُل، فإنه لم يكمُل شيء إلا نقص». يريد بالنقص انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى.
[2] الواحدي، علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، تحقيق: كمال زغلول، بيروت – لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1، (1411 هـ/ 1991 م). ص: (192).
[4] ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق: علي محمد عمر، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط 1، (1421 هـ/ 2001 م). ص: (2/152).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق