الفصل الثاني المبحث الثالث: تعيين مكانها
المطلب الثاني: أقوال العلماء في تعيين مكانها
يعرض هذا المطلب أقوال العلماء في تعيين
مكان الطائفة في قسمين اثنين: من عيّن منهم مكان الطائفة بالشام، ثم من قال إنها
في الشام وما يليه من الغرب، ولا يوجد اختلاف بين العلماء في تعيين مكان الطائفة
بالشام، حسب ما اطلعتُ عليه من أقوالهم، سوى ما قاله النووي بصيغة الاحتمال لا
الإقرار، في جواز أن تكون متفرقة في الأقطار.
قال الإمام النووي: «ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين...،
ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض»[1]. وصاغه ابن حجر بأسلوبه، وزاد عليه
للإيضاح، فقال: «قال النووي: ...ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم
في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد،
وأن يكونوا في بعض منه دون بعض»[2].
وقد تفرّد النووي بهذا الرأي، ولم يرجّح أحد
الاحتمالات التي ساقها، وإلا لاحتاج إلى قرينة من دلالات الحديث الذي عيّن موضع
الطائفة المنصورة فعلًا، وهذا ما تبيّن وتقوّى بأقوال الصحابة والعلماء، وهي
الآتي.
من عيّن مكانها بالشام
ذكر ابن بطّال أن مُطَرِّف بن عبد الله،
أحد كبار التابعين، قال: «وكانوا يرون أنهم أهل الشام»[3]، وفي هذا إشارة إلى الصحابة، رضي الله
عنهم، وقد عرضنا ما رواه البخاري أن معاذ بن جبل قال: «وهم بالشأم». وروى أبو جعفر الطبري أن مطرف كان يقول: «هم أهل الشام»[4].
ونقل ابن تيمية أن أحمد بن حنبل قال:
«أهل الغرب
هم أهل الشام»[5]، وذكر ابن رجب في رسائله، أن الأوزاعي حدّث
قتادة بحديث الطائفة، فقال قتادة: «لا أعلم أولئك إلا أهل الشام»[6].
وروى الترمذي الحديث في كتاب الفتن،
وترجم له: باب ما جاء في أهل الشام[7]،
ورواه الهيثمي في كتاب المناقب، باب في فضل الشام وأهله[8].
وذكر الإمام الطبري حديث رسول الله ﷺ الذي في آخره: (ببيت المقدس وأكناف بيت
المقدس)، وقال: «فبَيَّن الرسول ﷺ في هذا الخبر، ...بوصفه الطائفة التي
أخبر عنها أنها على الحق مقيمة إلى قيام الساعة، أنها ببيت المقدس وأكنافه، دون
سائر البقاع غيرها»[9].
وقال ابن بطّال في تحديد موضع
الطائفة: «وقد
جاء ذلك بيّنًا في حديث أبي أمامة الباهلي، وحديث عمران بن الحصين»[10]، وذكر حديث أبي أمامة، وفيه: (قيل: فأين هم
يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس أو أكناف بيت المقدس).
وسبق ذكر قول التوربشتي: «الأمة القائمة بأمر الله، وإن اختُلف
فيها، فإن المعتد به من الأقاويل أنها الفئة المرابطة بثغور الشام نضّر
الله بهم وجه الإسلام»[11].
وقال ابن تيمية: «والنبي ﷺ ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائمًا،
إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر
دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام»[12].
وقال ابن رجب الحنبلي: «وأهل العلم بالسنة النبوية بالشام هم
الطائفة المنصورة، القائمين بالحق الذين لا يضرهم من خذلهم»[13].
وجمع ابن حجر العسقلاني بين أقوال
العلماء في تفسير قول النبي ﷺ (أهل الغرب) فقال: «ويمكن الجمع بين الأخبار، بأن المراد قوم
يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة»[14]، واختار الألباني تفسير (أهل الغرب)
بالشام[15].
وسبق ذكر قول محمد حبيب الله الشنقيطي: «فغير بعيد، أن أول ظهور هذه الطائفة المجاهدة في سبيل الله، المتمسكة بالحق إلى قيام الساعة، الطائفة المجاهدة اليوم في فلسطين».[16]
وقال القرضاوي: «وقد حدّدت الأحاديث الشريفة مكانهم بالشام
كما في حديث معاوية، ...إنها بشارة نبوية صدرت منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا
لإخواننا الأبطال من شعب فلسطين»[17]، وقال عبد الله ناصح علوان: «من خلال هذه الأحاديث الصحيحة يتبين أن
ساحة الجهاد في إقامة دولة الإسلام هي بلاد الشام وأكناف بيت المقدس»[18].
وكان أبو الحسن الربعي، المحدث الدمشقي المالكي، ذكر الحديث في مصنفه: (فضائل الشام ودمشق)[19]. وابن عساكر في مصنفه الكبير: (تاريخ دمشق)[20]، وكذلك فعل محمد شبير في كتابه (بيت المقدس وما حوله)، وجعل فيه بابًا، أسماه: أهل الشام هم الطائفة المنصورة التي ينتقم الله بها من أعدائه[21]، والشيخ المنجّد في كتابه (طوبى للشام)، رتّب بابًا بعنوان: الطائفة المنصورة التي تحمل الحق وتدافع عنه في أرض الشام[22].
أنها في الشام وما يليه من الغرب
تساءل المحدّث أبو العباس القرطبي
إذا كان المراد بأهل الغرب الشام فقط أم كل ما هو غرب المدينة المنورة، من الشام
إلى بلاد المغرب العربي. فقال: «المراد به أهل المغرب في الأرض، لكن أول المغرب بالنسبة إلى المدينة، مدينة
النبي ﷺ، إنما هو الشام، وآخره: حيث تنقطع الأرض
من المغرب الأقصى وما بينهما، كل ذلك يقال عليه: مغرب. فهل أراد المغرب كله، أو
أوله؟ كل ذلك محتمل»[23].
واستند على رسالة بعث بها أبو بكر
الطرطوشي إلى أقصى المغرب، قال فيها: «هل أرادكم رسول الله ﷺ أو أراد بذلك جملة أهل المغرب؛ لما هم
عليه من التمسك بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء
لآثار من مضى من السلف الصالح»[24].
ونقل السيوطي كلام الطرطوشي هذا،
وقال: «لا يبعد أن
يراد بالمغرب مصر، فإنها معدودة في الخط الغربي»[25]، ثم استدل بحديث ضعيف عن عمرو بن الحمق،
قال: قال رسول الله ﷺ: «تكون فتنةٌ أسلمُ الناس فيها الجندُ
الغربي»، قال ابن الحمق: «فلذلك قُدمتْ عليكم مصر»[26].
ونقل كلام الطرطوشي أيضًا ابن الزيّات
التادلي، واستدل بأحاديث (أهل الغرب)، في فضل أهل المغرب الأقصى، معتبرًا
إياها ثابتًا لا يُنازع في ثبوته على فضلهم، فقال: «وقد جاء في الحديث الصحيح من فضل أهل
المغرب ما لا يدفعه دافع، ولا ينازعه منازع كمثل ما رويناه من مسلم بن الحجاج
بسنده إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق
حتى تقوم الساعة)»[27].
وإذا أراد ابن الزيات حصر الحديث بأهل
المغرب الأقصى دون غيرهم، لَتعارض مع الروايات الأخرى الصحيحة التي عيّنت مكان
الطائفة بالشام، وأما إذا أراد ما قاله القرطبي، بأنه يشمل أهل المغرب في الأرض
بالنسبة إلى المدينة المنورة، وأوله الشام، وآخره حيث تنقطع الأرض من المغرب
الأقصى، أو كما قال السيوطي بأن مصر معدودة في هذا الخط؛ فقد يكون محتملًا، وله
شواهد.
فيشهد له القول المشهور لابن المديني، بأن
أهل الغرب هم العرب، ومعلوم أن العرب سكنوا هذه المساحة الغربية الشاسعة، وانتشروا
فيها، حتى أضحت اليوم جزءًا من الوطن العربي جغرافيًا.
وفتح الشام كان أصلًا لفتح المغرب من مصر
إلى الأندلس، قال ابن تيمية: «وكل ما يغرب عن الشام من مصر وغيرها فهو داخل في الغرب، وفي الصحيحين: أن
معاذ بن جبل قال في الطائفة المنصورة: (وهم بالشام)، فإنها أصل المغرب، وهم فتحوا
سائر المغرب: كمصر، والقيروان، والأندلس، وغير ذلك»[28].
وأهل الغرب هؤلاء، من الشام حتى بلاد المغرب
الأقصى، كانوا يقاتلون على مر التاريخ عدوًا واحدًا شرسًا ومتربّصًا، وهو الروم،
الصليبيون الأوربيون، العدو «التقليدي» للطائفة المنصورة، وكان هذا الخط الغربي
يمثل جبهة واحدة[29] أمام الحملات الاستعمارية لهذا العدو.
وكان هدف الروم واحدًا في كل معاركهم وهجماتهم وهو محاولة النفاذ من أحد الثغور على طول الحدود الغربية البرية والبحرية ووضع قدم لهم في المنطقة من أجل بناء إمبراطورية غاشمة تنهب وتسرق خيرات الشعوب الأخرى، فهذه عادتهم منذ كان البحر المتوسط يسمى بحر الروم وحتى الاستعمار الحديث.
ولكن مع هذه الشواهد النقلية والتاريخية التي تبين ارتباط الخط الغربي مع الشام، يحتاج هذا الرأي إلى مزيد من الأدلة ولا سيما النقلية منها، ولا يسلَّم به، وهذا مع الالتفات والتأكيد على الدور التاريخي لمشارق ديار الإسلام في جهاد الروم، فبطولات صلاح الدين ونور زنكي والعثمانيين لا تزال حاضرة في الأذهان، والله تعالى أعلم.
[1] النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، ص: (13/97-98).
[2] ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ص: (24/105).
[4] الطبري، تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار: مسند عمر، السفر الثاني، (35) ذكر خبر آخر من حديث عمر، ذكر من وافق عمر في روايته، حديث: (1159)، ص: (824).
[9] الطبري، تهذيب الآثار، مسند عمر، السفر الثاني، (35) ذكر خبر آخر من حديث عمر، القول في البيان عما في هذه الأخبار، ص: (835).
[11] التوربشتي، الميَسَّر في شرح مصابيح السنة، مرجع سابق، كتاب المناقب، باب: ثواب هذه الأمة، ص: (4/1360).
[13] ابن رجب الحنبلي، مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي، فضائل الشام، الباب الخامس: فيما ورد أن الطائفة المنصورة بالشام ص: (3/211).
[15] انظر: الألباني، تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق: أبو الحسن الربعي، (21). وهامش كتاب: المنذري، مختصر صحيح مسلم، تحقيق الألباني، مرجع سابق، ص: (2/290).
[16] الشنقيطي، زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، مرجع سابق، فيما كان مصدرًا بلفظ (لا) من الأحاديث العلية، حديث: (1217)، ص: (4/355-356).
[18] علوان، عبد الله ناصح، الإسلام والقضية الفلسطينية، ص: (1981)، (85).
وعبد الله ناصح علوان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الشريعة من جامعة السند في باكستان، ولد بمدينة حلب سنة (1928م)، ثم سافر إلى مصر لدراسة علوم الشريعة الإسلامية في الأزهر، ونال شهادة كلية أصول الدين، ثم نال الماجستير سنة (1954 م)، وسجن هناك لنشاطه السياسي في جماعة الإخوان المسلمين، اشتهر بكتبه الدعوية والتربوية، توفي في مدينة جدة في السعودية سنة (1987 م).
[19] انظر: الألباني، تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق: أبو الحسن علي بن محمد الربعي، مرجع سابق، الحديث الخامس وما يليه، ص: (17).
[20] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، أبواب ما جاء من النصوص في فضل دمشق على الخصوص، باب ما جاء عن سيد المرسلين في أن أهل دمشق لا يزالون على الحق ظاهرين، ص: (1/254).
[21] شبير، محمد عثمان، بيت المقدس وما حوله، الأردن، دار النفائس للنشر والتوزيع، ط 1، (1423 ه/ 2004 م). ص: (30). والمؤلف هو محمد عثمان طاهر شبير، ولد سنة (1949م) في خان يونس في قطاع غزة، حاصل على دكتوراه في الشريعة في الفقه المقارن سنة (1980 م)، عمل أستاذًا في عدة جامعات عربية منها: جامعة الملك سعود، وجامعة الكويت، والجامعة الأردنية، وجامعة قطر، وجامعة الشارقة، وله العديد من الكتب المطبوعة والأنشطة الأكاديمية.
[27] التادلي، يوسف بن يحيى، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط 2، (1997 م). ص: (31).
والتادلي هو أبو يعقوب، يوسف بن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن، المعروف بابن الزيات، أديب وقاضي مالكي من أهل تادلة بالمغرب، توفي سنة (627 ه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق