الفصل الثاني: حقيقة الطائفة المنصورة ودورها
المبحث الثالث: تعيين مكانها بالشام
فتح المسلمون الشام وانتزعوها من أيدي الروم
في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب h، فكانت أول مدينة بيزنطية فتحها المسلمون
(مؤاب) شرقي البحر الميت أواخر سنة (12 هـ)[1]، وآخر فتوحاتهم مدينة طرابلس في لبنان سنة (23 هـ)[2].
وفتحوا بيت المقدس سنة (15 هـ)، ومدينة دمشق عاصمة الخلافة الأموية سنة (14 هـ).
ومنذ ذلك الحين، لم يهدأ الجهاد والرباط في
سبيل الله في بلاد الشام على مر التاريخ، حتى في أيام العز والقوة حين توسعت
الخلافة الإسلامية، وامتدّت أطرافها، كانت الثغور الشامية ساخنة زمن
الأمويين والعباسيين، وهي المناطق الحدودية والبحرية مع دولة الروم الشرقية
(البيزنطيين)، وتمتد من الفرات شمال العراق باتجاه البحر المتوسط، وتنتشر على
شاطئه حتى مدينة الإسكندرية في مصر، ووقعت هذه المناطق القريبة من العدو التي عرفت
تاريخيًا أيضًا باسم (الدروب) و(منطقة الأجناد) بين مد وجزر قرونًا طويلة، ومن
مدنها: إنطاكية، وحلب، وطرسوس، وقنسرين، وملطيّة، ومرعش وغيرها من المدن الشامية.
بيّنت أحاديث الطائفة المنصورة، صراحة وإشارة، عن مكان الطائفة، ولم تكشف هذه الأحاديث عن سوى الشام محلًا وموضعًا لها، فمنها ما ذكر أنها في الشام على العموم، ومنها ما خصص مدينة أو موضعًا من الشام، ولا سيما بيت المقدس ودمشق، وتراوحت الأحاديث بين الصحة والضعف، ولكن يقوي بعضها بعضًا
ومن هذه الحدود نفذ الصليبيون (الروم
الغربيون) إلى بيت المقدس، ولم تأمن هذه المناطق فعليًا إلا بعد اختراق العثمانيين
للدولة البيزنطية، وفتح عاصمتها (القسطنطينية) على يد محمد الفاتح الذي أزال عبئًا
ثقيلًا عن كاهل الأمة الإسلامية، سنة (857 هـ/ 1453 م)، أي بعد تسعة قرون متتابعة
من الهجرة النبوية، خاضت فيها الشام معارك متتالية، تخلّلها الحروب الصليبية
والهجوم المغولي الخاطف.
وسرعان ما جاء البرتغاليون إلى البحر الأحمر
والجزيرة العربية بأهدافهم التوسعية، وقضى على آمالهم الاستعمارية الحكم العثماني
الجديد الذي ساد أرض الروم، فالشام، فمصر والجزيرة العربية، ولم تردع مَنَعة
الدولة العثمانية الروم من الغزو والتهديد، فقد تبع ذلك حملة نابليون الفرنسية إلى
مصر، والتفّت إلى فلسطين وحاصرت مدينة عكا، ثم جاؤوا على بساط الاستعمار الحديث
أكثر خبرة وتقنية، وأحذق حيلة، أعقب ذلك تسليم بريطانيا بيت المقدس للإسرائيليين[3]،
كما نرى في واقعنا المعاصر.
تسرد هذه النبذة التاريخية المختصرة أهم المعالم الجهادية في الشام، وتكشف
الامتداد الزمني الحقيقي والطويل للقتال الذي سطّرته الأمة على أرض الشام
المباركة، وهذا مما يؤكد استحقاق الشام لأن تكون مكان طائفة الحق المجاهدة على مر
العصور، إذ تكسّرت على أرضها أخطر هجمات الأعداء الذين حاولوا الولوج إلى عمق
الديار الإسلامية.
المطلب الأول: الأحاديث التي عيّنت مكان الطائفة
بيّنت أحاديث الطائفة المنصورة، صراحة وإشارة، عن مكان الطائفة، ولم تكشف هذه الأحاديث عن سوى الشام محلًا وموضعًا لها، فمنها ما ذكر أنها في الشام على العموم، ومنها ما خصص مدينة أو موضعًا من الشام، ولا سيما بيت المقدس ودمشق، وتراوحت الأحاديث بين الصحة والضعف، ولكن يقوي بعضها بعضًا، ومن هذه الأحاديث:
1.
الحديث رقم: (33) في هذا البحث، وفيه: قال
رسول الله ﷺ: «هم أهل الشام»، ونَكَت رسول
الله ﷺ بإصبعه، يومئ بها إلى الشام حتى أوجعه.
2.
الحديث رقم: (5)، وهو حديث موقوف عن معاذ بن
جبل رضي الله عنه في صحيح البخاري، وفيه أن مالك بن يخامر
قال: سمعتُ معاذًا يقول: «وهم بالشأم». فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع
معاذًا يقول: وهم بالشأم.
3.
والحديث: (23)، الذي فيه: قالوا: يا رسول
الله، وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس».
4.
والحديث: (19)، وفيه: «يقاتلون على أبواب
دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله».
5.
والحديث: (36)، الذي في نهايته: «وعقر
دار المؤمنين الشام».
6.
والحديث: (17)، وفيه قول رسول الله ﷺ: «إذا فسد أهل الشام فلا
خير فيكم».
7.
والحديث: (4)، الذي فيه قول معاوية بن أبي
سفيان: «وإني لأرجو أن تكونوهم يا أهل الشام».
8. وما جاء في
(أهل الغرب) من الأحاديث، ومنها الحديث: (14)، الذي رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص،
قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق
حتى تقوم الساعة»، فقد ذهب أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن رجب، وابن حجر،
وأبو العباس القرطبي، وغيرهم إلى أن المراد بأهل الغرب هم أهل الشام[4].
وهذه الروايات الثمانية صحّحها العلماء إلا
ثلاث منها، وهي حسب الترتيب: الثالثة والرابعة والسابعة، ولم تقيّد هذه الأحاديث
الشام بزمن محدد، بل جاء الكلام عامًا ومطلقًا، مما يدل على أن الطائفة تكون في
الشام حصرًا ودائمًا حتى تقوم الساعة، وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء وجمهورهم
كما سيأتي في ذكر أقوالهم.
قال الألباني عن الروايات التي ذكرت الشام: «يدل مجموعها على أن للحديث بذكر الشام أصلًا
أصيلًا، وبخاصة أن حديث معاذ صحيح وإن كان موقوفًا، فإنه في حكم المرفوع، وبخاصة
أنه مما أخرجه البخاري في صحيحه، ثم وجدتُ لحديث أبي هريرة في الشام طريقًا صحيحًا؛
فخرجته في (الصحيحة)، وأما الحديث بلفظ مطلق دون ذكر الشام، فهو متواتر»[5].
ويُفهم من كلام الألباني أن حديث معاذ
الموقوفَ هو أصح ما جاء في تعيين مكان الطائفة بالشام، ثم الحديث الذي وجده من
طريق أبي هريرة، وصحّحه وخرّجه في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، وقد ترجم له: بشرى
لأهل الشام المؤمنين، ثم ذكره، وقال: «قد جاء في أهل الشام وأنهم الطائفة
المنصورة أحاديث أخرى في أسانيدها ضعف؛ كنت أشرت إليها في «الضعيفة» تحت الحديث (6104)، ثم وقفتُ على هذا، فبادرت لإخراجه هنا
لصحة إسناده»[6].
وهذا الحديث هو الأول في الأعلى، وهو من
أهول الأحاديث التي حدّدت الشام مكانًا للطائفة، لما فيه من الدلالة الصريحة بقول:
(هم أهل الشام)، والتأكيد بالإشارة إلى الشام بيده الشريفة، والحديث بطوله،
أن عمير بن الأسود وكثير بن مرة الحضرمي قالا: إن أبا هريرة وابن السمط كانا
يقولان: لا يزال المسلمون في الأرض حتى تقوم الساعة، وذلك أن رسول الله ﷺ قال: «لا تزال من أمتي عصابة قوّامة على
أمر الله عز وجل، لا يضرُّها من خالفها؛ تقاتل أعداءها، كلما
ذهب حربٌ نشِبَ حربُ قوم آخرين، يزيغ الله قلوب قوم ليرزقَهم منه حتى
تأتيهم الساعة، كأنها قطع الليل المظلم، فيفزعون لذلك؛ حتى
يلبسوا له أبدان الدروع، وقال رسول الله ﷺ: هم أهل الشام، ونكَتَ رسول الله ﷺ بإصبعه؛ يومئ بها إلى الشام حتى أوجعها».
ولعل الألباني -رحمه الله- لم يحضره أنه صحّح أيضًا حديث قرة بن إياس في كتابه: صحيح سنن الترمذي، السادس في الأعلى، وفيه: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين...)، الحديث، وأنه فسّر (أهل الغرب) بالشام[7]، وهي أحاديث صحيحة، جاء منها في صحيح مسلم.
ولا يعتبر كثرة الروايات الصحيحة المطلقة التي لم تذكر مكان الطائفة، سببًا ودليلًا للقول بعدم وجود مكان معيّن لها، فالروايات الصحيحة التي عينت المكان، وإن قلّت، تقيّد الروايات المطلقة وإن كثرت، فالأصل حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وليس العكس.
[1] طقّوش، محمد سهيل، تاريخ الخلفاء الراشدين: الفتوحات والإنجازات السياسية، بيروت – لبنان، دار النفائس للطباعة والنشر، ط 2، (1432 هـ/ 2011 م). ص: (156).
[2] المرجع السابق، ص: (376).
[3] لقد سلمت أوروبا (الروم) بيت المقدس إلى يهود أوروبا المنبوذين (الإسرائيليين)، وقدمت لهم الدعم، بعد تلقيها خسائر فادحة في حروبها التاريخية في المنطقة، ومحاولات درامية فاشلة في السيطرة عليها كما كانت تحكمها قبل انتشار الإسلام، وتسليم فلسطين للإسرائيليين لا يعني تخلّيها عن أطماعها الإمبريالية التوسعية، بل المحاولة بأداة جديدة مختلفة غير مباشرة وغير مكلفة بالنسبة لها، وينمّ عن خداع شرير ضحيته بالدرجة الأولى هم اليهود الذين جمعوهم من دول العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق