الفصل الثاني المبحث الثالث: تعيين مكانها
المطلب الثالث: دلالة تعيين الشام مكانًا للطائفة
يحق للسائل أن يقول: لماذا الشام؟ وهل طائفة
الحق مقصورة وحصرية بأهل الشام، وساكنيها؟ وهل كل شامي هو قطعًا من الطائفة
المنصورة أو أنه ضَمِن ذلك؟ ومنهم المنافق والفاسد؟ أليس في هذا القول حرمان لباقي
البقاع الإسلامية؟ أليس يقدّس المرءَ عملُه؟ وأليس الخير في كل الأمة؟ والمؤمنون،
والعلماء، والمجاهدون، والصالحون، منتشرون في الأمصار؟ وإذا كان الأمر متعلق ببركة
وقداسة المسجد الأقصى، وما حوله؛ أليس الحرَمَان أقدس منه بلا خلاف؟
تستدعي الإجابة على هذه الأسئلة الجادّة،
واستفهام معنى تعيين الشام مكانًا للطائفة المنصورة النظر في طبيعة الطائفة
وصفاتها، وتتبّع خطها الزمني عبر التاريخ في الماضي والمستقبل، ولذلك سأنظر إلى
ماضي المجاهدين والمرابطين في الشام، والوقوف أمام الملاحم والمعارك الكبرى التي
خاضوها، فيما سجله التاريخ من أحداث مضت، وفي مستقبلهم مما أخبر به النبي ﷺ عن أحداث ستجري، وكلها متعلقة بموضوع
المسألة.
الطائفة المنصورة قد تأتي من خارج الشام وليس بالضرورة أن تتشكل داخلها، وأن الأمة كلها معنيّة ومطلوب منها أن تشترك في الجهاد والرباط الشامي، وأن الله ﷻ يُسخِّر خيار الصالحين من عباده وجنوده من أمة الإجابة المحمدية من يحقق الانتصارات العظمى في الشام
فقد قال ابن تيمية، بعد أن عدّد أسماء كثير
من العلماء والصالحين الذين كانوا يرابطون في ثغور الشام؛ قال: «ومنهم من كان يجيء من خُراسان والعراق
وغيرهما للرباط في الثغور الشامية»[1].
وجاء جُلّ المجاهدين العظام الذين قاتلوا
الصليبيين، زمن الدولة الزنكية، من شمال العراق[2]،
وخصوصًا الموصل، وأغلبهم من القبائل التركية: السلاجقة والأراتقة، والقبائل
الكردية والعربية.
وأما صلاح الدين، فقد أضاف في جيشه إلى جانب
العراقيين والشاميين تشكيلات جديدة من المصريين والمغاربة[3]،
وضمّت دولته الحجاز واليمن، ونستقرئ من التجربة الزنكية-الأيوبية أن الجيوش التي
قاتلت الصليبيين في جميع المواقع والملاحم قد احتوت على العرب والأكراد والأتراك
والأمازيغ والفرس، وغيرهم من شرق الأمة الإسلامية وغربها.
ولم تكن جيوش المماليك في عهد القائدين
المظفر قطز الذي انتقل من الدولة الخوارزمية إلى مصر، والظاهر بيبرس أقل تنوعًا
حين انتصرت على المغول والتتار، وأنهت آخر القلاع الصليبية في عهد الملك الأشرف
صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهذا التنوع ينطبق على جيش
الدولة العثمانية التي حمت الشام والجزيرة العربية من البرتغاليين والفرنسيين
وغيرهم.
وعند اشتداد الفتن والملاحم في الشام في آخر
الزمان، يلحق جميع المؤمنين بالشام، فقد روى الحاكم في حديث موقوف، عن عبد الله بن
عمرو، قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام»[4].
وروى مسلم في حديث الملحمة وفتح
القسطنطينية، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ، قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم
بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ...» [5]،
الحديث، وهذا على تفسير المدينة بأنها المدينة المنورة لأنه عَلَم لها[6]،
والأعماق ودابق موضع بالشام.
وفي الأحاديث أن المهدي رضي الله عنه يحضر
وجيشه للشام من الحجاز أو من خراسان، على اختلاف الروايات، ورسول الله عيسى ابن
مريم ﷺ ينزل من السماء في آخر الزمان لقتل عدو الله
الدجّال في باب لُدّ، شمال فلسطين.
ويستبين من هذا التتبع البسيط أن الطائفة
المنصورة قد تأتي من خارج الشام وليس بالضرورة أن تتشكل داخلها، وأن الأمة كلها
معنيّة ومطلوب منها أن تشترك في الجهاد والرباط الشامي، وأن الله ﷻ يُسخِّر خيار الصالحين من عباده وجنوده من أمة الإجابة المحمدية من يحقق
الانتصارات العظمى في الشام.
ويستجلي منه أن البقعة الشامية المقدسة المباركة هي مكان اجتماع والتقاء لأفراد الطائفة المجاهدة المؤيَّدة، وأنها (الثغر الأكبر) للأمة، وميدان العمليات الجهادية الرامية إلى حفظ الدين وحراسة الأراضي المقدسة، وأن الواجب الموكول على عاتق الطائفة هو واجب كل أفراد الأمة على حسب مسؤولياتهم واستطاعتهم، وإن كان على الساكنين بالشام العبء الأكبر منه لمجاورتهم بيت المقدس.
وعلى أفراد الأمة، في الشام وفي غيرها، أن يعوا التكليف الواقع عليهم في هذا الشأن ليحوزوا شرف الانتساب لهذه الطائفة الشريفة، وإنه ليسير لمن يسره الله له، فهذا هو المعنى الأساسي الذي يمكن فهمه من تعيين مكان الطائفة بالشام، ولا يمكن أن نفهم منه أن الطائفة محصورة في الشاميين أو مقصورة عليهم.
[1] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص: (27/53).
[2] انظر: السرجاني، راغب، قصة الحروب الصليبية، القاهرة، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، ط 2، (2009 م). لماذا شمال العراق، ص: (221).
[3] الصلابي، علي محمد، صلاح الدين الأيوبي، بيروت – لبنان، دار المعرفة، ط 2، (1429 هـ/ 2008 م). وانظر فيه الفصل الثاني: قيام الدولة الأيوبية، دور المغاربة في الأسطول الصلاحي، ص: (409).
[4] الحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب الفتن، حديث: (8413)، ص: (4/504)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق