المبحث الأول: منهج الطائفة واتباعها للسنة.. واهتمام السلف بذلك
لما كانت الطائفة قائمة بالدين، وظاهرة عليه
بالحق، ومواظبة على أداء ما كلف الدين به، ومطيعة لما أمر به؛ لزم أن تكون متمسكة
بكتاب الله ﷻ وبهدي النبي ﷺ وسنته، وآخذة بما ورد في النصوص الدينية
الموحى بها من أحكام وفرائض، ولا معنى لقيمة استمرارها على الدين إن تقلبت وتغيرت
وتلونت حسب المناهج والمدراس والأفكار والفلسفات والأهواء التي يستحدثها البشر من
حين إلى آخر، بعيدًا عما جاء الوحي به، وما تناولته الأمة وتواترته جيلًا بعد جيل.
أهل الحديث، وأهل الأثر، وأهل السنة، وأهل العلم... أُطلقت هذه الألقاب على كل من اعتقد بمذهب هؤلاء الأئمة ومنهجهم، منهج الاتباع، منهج أهل السنة والجماعة.
ولا ينبغي أن تحمل هذه الطائفة صفة التمسك
بالدين وهي تتبع هواها، أو تقدم الرأي والعقل على الآيات والأحاديث الصحيحة، أو أن
تكون مبتدعة في الدين ما ليس منه.
وهذا جانب أكّد عليه الأئمة من السلف، ولا
سيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وثبّتوا فيه هذه الصفة الرئيسية من صفات
الطائفة المنصورة، وهي صفة الاتباع لما جاء به الوحي في كتاب الله ﷻ المتواتر، ولما صح وثبت من هدي النبي ﷺ، وسنته، وألَّا
يختلط ذلك بالبدع والهوى.
فقد أخذ الأئمة على عاتقهم في تلك الفترة
المبكرة، تثبيت حديث رسول الله ﷺ بطرق علمية صَرْفة، فترحّلوا بين البلدان
والأمصار، وتحرّوا أخباره عليه أفضل الصلاة والتسليم من طرق الصحابة والتابعين
وتابعيهم، وتتبعوا آثارهم، وأقوالهم، ورواياتهم عن رسول الله ﷺ، وجمعوا الآلاف المؤلّفة من الأحاديث
الشريفة والأخبار النبوية، فبيّنوا صحيح الحديث، وضعيفه، وجنّبوا عنه دجل
الوضّاعين، بهدف التمسك بهدي النبي ﷺ وسنته، وحث
الناس على ذلك.
ولـمّا تمسك علماء الأمة بهدي النبي ﷺ في علمهم وعملهم، وفي تصريف أمور دنياهم
وآخرتهم، واعتصموا بالكتاب والسنة؛ عُرفوا بذلك واشتهروا به، حتى صار اسمًا لهم
وعَلَمًا ولقبًا؛ فهم أهل الحديث، وأهل الأثر، وأهل السنة، وأهل العلم، وهم
أصحابها، وأُطلقت هذه الألقاب على كل من اعتقد بمذهب هؤلاء الأئمة ومنهجهم، منهج
الاتباع، منهج أهل السنة والجماعة.
وعلماء الأمة، في ذات الوقت والحين، تصدوا
لأقاويل ومناهج الفرق المستحدثة التي نشأت في زمنهم بعد ترجمة التراث الثقافي
اليوناني والفارسي القديم، وانغماس البعض في علم الفلسفة والكلام، ومحاولة فرضه
على علوم الشريعة دون تهذيب وتحرير.
فمن هذه الفرق من قدم العقل على النص،
فاعتبر ما يراه عقله أنه ثابت ودليل أولى بالاتباع مما ثبتت صحته من الأحاديث
الشريفة، كأهل الكلام، ومنها من ابتدع في الدين ما لم يرد به نص ودليل كالرافضة،
وشاعت فرق ومذاهب متعددة، ضلت طريقها: كالخوارج، والقدرية، والجهمية، والمرجئة،
والمعتزلة، وغيرها، بعضها انتهى وتلاشى، وبعضها لا يزال له أتباع، ومدعين -حتى
زمننا هذا- من أهل الهوى، وأهل البدع، وغيرهم.
فحرص الأئمة الأولون على إجلاء ما قد يختلط
على البعض في زمنهم، بعد أن عكّر صفو المجتمع الواحد ما تسلل إلى أذهان بعضهم من
الفلسفات والأفكار اليونانية والفارسية دون معالجة، وتبيين أن الطائفة المنصورة
الثابتة المستمرة لا يمكن أن تكون من دائرة أولئك الذين ضلوا الطريق بعد تشبّعهم
بتلك الفلسفات والهوى والابتداع، بل من دائرة أهل الحديث والعلم والأثر، يقصدون
أنها لن تكون إلا على منهج أهل السنة الذين يتمسكون بما جاء به الوحي، وأن الحق
الذي تحمله الطائفة لا يمكن أن يخرج عن رحابة الكتاب والسنة.
فقال عبد الله بن المبارك في الطائفة
المنصورة: «هم
عندي أصحاب الحديث»[1]
وقال يزيد بن هارون: «إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من
هم!»[2].
ونقل الترمذي في سننه عن البخاري أن شيخه علي
بن المديني قال: «هم أصحاب الحديث»[3]. وأورد الخطيب البغدادي[4] عن ابن المديني أنه قال مثل هذا الكلام.
وروى ابن عدي أن علي بن المديني قال: «هم أصحاب الحديث الذين يتعاهدون مذاهب
الرسول ﷺ، ويذبُّون عن العلم، لولاهم لم نجد
عند المعتزلة، والرافضة، والجهمية، وأهل الرأي، شيئًا من سنن المرسلين»[5].
وذكر الخطيب البغدادي أن أحمد بن حنبل،
قال: «إن لم
يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم!»[6]، وأن أحمد بن سنان، قال: «هم أهل العلم، وأصحاب الآثار»[7].
وروى البخاري حديث الطائفة المنصورة
في صحيحه، وأورده في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين يقاتلون على
الحق، وهم أهل العلم[8].
والقول الأخير هذا للبخاري.
وقال الخطيب البغدادي: إن البخاري ذكر حديث
النبي ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي) وقال: «يعني أصحاب الحديث»[9].
وقال المناوي: «وفيه معجزة بيّنة، فإن أهل السنة لم
يزالوا ظاهرين في كل عصر إلى الآن، فمن حين ظهرت البدع على اختلاف صنوفها: من
الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، لم يقم لأحد منهم دولة، ولم تستمر لهم شوكة،
بل (كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله) بنور الكتاب والسنة»[10].
وقال ابن الجوزي قبل أن يذكر حديث
الطائفة المنصورة: «قد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهِرون
شيئًا لم يكن قبل، ولا مستند له، ولهذا استتروا ببدعتهم، ولم يكتم أهل السنة
مذهبهم، فكلمتهم ظاهرة، ومذهبهم مشهور، والعاقبة لهم»[11]، ثم حكى الحديث.
وللدلالة على الاتباع للكتاب والسنة، وتعاهد
مذهب الصحابة، روى ابن ماجة الحديث في سننه، في كتاب السنة، باب اتباع سنة
رسول الله ﷺ[12]، ورواه البغوي في كتاب: فضائل
الصحابة، وبوّب له بقوله: ظهور طائفة من هذه الأمة على من خالفهم[13].
وأورد إسماعيل الأصبهاني الحديث في
كتابه: الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، وبوّب له بقوله: ذكر أهل
الحديث وأنهم الفرقة الظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة[14]،
ومثله فعل أبو القاسم اللالكائي، إذ ذكر الحديث في مصنفه: شرح أصول اعتقاد
أهل السنة والجماعة، وترجم له بقوله: سياق ما روي عن النبي ﷺ في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم
وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة[15].
ومن المتأخرين المعاصرين، قال التويجري: «المراد بالطائفة المذكورة في هذه الأحاديث: أهل السنة والجماعة»[16].
ويستبين لنا جليًا أن مراد الأئمة في أقوالهم هذه إبراز المنهج والمذهب الذي تلتزم به طائفة الحق، وهو منهج أهل السنة والجماعة، منهج الاتباع لسنة رسول الله ﷺ، وقد شاع عند بعض المتأخرين والمعاصرين أن مراد الأئمة بقولهم: أهل الحديث، وأهل العلم أو أصحاب الحديث والأثر، أي: العلماء، وعدّوا هذا دليلًا على ما ذهبوا إليه من أن الطائفة هي فئة العلماء على مر الزمن، وليس في الحديث، ولا في أقوال الأئمة الأولين ما يبرهن على ذلك البتة، وسأبيّن هذه الأدلة لاحقًا، وسأذكر ما قاله العلماء في توضيح أن المراد بأهل الحديث هو أهل السنة والجماعة، أي منهج الطائفة، في المبحث التالي إن شاء الله.
[1] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، شرف أصحاب الحديث ونصيحة أهل الحديث، تحقيق: عمرو عبد المنعم سليم، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، وجدة، مكتبة العلم، ط 1، (1417 هـ/ 1996 م). ص: (61).
[2] المرجع السابق، ص: (59).
[3] الترمذي، جامع الترمذي، مرجع سابق، كتاب الفتن، باب ما جاء في أهل الشام، حديث: (2192)، ص: (504).
[5] ابن عدي، عبد الله بن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال، تحقيق: مازن محمد السرساوي، الرياض، مكتبة الرشد، ط 1، (1434 هـ/ 2013 م). ص: (1/302).
[10] المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير شرح الجامع الصغير، تحقيق: أحمد عبد السلام، بيروت - لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1، (1422 هـ/ 2001 م). حرف (لا)، ص: (6/512-513).
[11] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن الجوزي، تلبيس إبليس، تحقيق: زيد بن محمد المدخلي، القاهرة – مصر، دار المنهاج، ط 2، (1436 هـ/ 2015 م). ص: (38).
[13] البغوي، الحسين بن مسعود، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، بيروت، المكتب الإسلامي، ط 2، (1403هـ/ 1983م). ص: (14/212).
[14] الأصبهاني، إسماعيل بن محمد، الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، تحقيق: محمد بن ربيع المدخلي، الرياض، دار الراية للنشر والتوزيع، ط 1، (1411 ه/ 1990 م). ص: (1/246).
[15] اللالكائي، هبة الله بن الحسن، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، تحقيق: أحمد بن سعد الغامدي، المملكة العربية السعودية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مؤسسة الحرمين الخيرية، ط 8، (1424 هـ/ 2003 م). حديث: (165-172)، ص: (1/110).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق