الفصل الثاني: حقيقة الطائفة المنصورة ودورها
المبحث السادس: وظيفة الطائفة المنصورة.. في صدّ البعوث
خطر لي تساؤل مهم في سياق حديث الطائفة
المنصورة، في الحديث رقم (35) من هذا البحث: «وإني سألت ربي لأمتي ألَّا يهلكها
بسَنَة بعامّة، ولا يسلّط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال
لي: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، ولا أُهلكهم بسنة بعامة، ولا
أسلّط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها»،
والسؤال: ماذا يمكن أن تكون بيضة المسلمين التي لا يمكن لعدو من غيرهم استباحتها؟
وهل للطائفة المنصورة دور فيه؟ والشاهد هنا قول ربنا ﷻ لسيدنا محمد ﷺ: «ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم
فيستبيح بيضتهم».
وبيضة القوم كما قال ابن الأثير: «أي مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم،
وبيضة الدار: وسطها ومعظمها، أراد إذا أُهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من
طعم أو فرخ، وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض فراخها»[1]، وقال النووي: «جماعتهم وأصلهم، والبيضة أيضًا العز
والملك»[2].
ويكشف التتبع التاريخي للحملات المعادية التي غزت منطقة الشام والجزيرة العربية بعد الإسلام، عن محاولات الاعتداء على الحرمين الشريفين، والدور البارز للطائفة المنصورة في كسر غزوات البعوث والجيوش الكافرة التي تسعى للنيل من بيضة الإسلام وأراضيها المقدسة، وتحاول الإفساد فيها والسيطرة عليها
وقال ابن منظور: «بيضة القوم: ساحتهم، ويقال منه: بِيضَ
الحيُّ، أُصيبَت بيضتُهم وأُخِذ كلُّ شيء لهم، ...وقوله في الحديث: (ولا
تُسلِّط عليهم عدوًا من غيرهم فيستبيح بيضتهم)... أَراد عدوًا يستأصلهم ويُهلِكهم
جميعهم»[3]،
ومنها قول لَقِيطٌ الإِيادِي:
يا قوم بيضتَكم لا تُفْضَحُنَّ بها إنّي
أخاف عليها الأَزْلَم الجَذَعا
«يقول: احفظوا عُقْر داركم، والأَزْلَم الجَذَع: الدهر لأنه لا يهرم أبدًا»[4].
فاستباحة بيضة قوم هي استئصالهم، وإتيان العدو عليهم جميعًا، وبيضة القوم هو المكان الذي إذا فسد، فسدوا جميعًا، وهو بالنسبة للمسلمين الحجاز والجزيرة العربية، الساحة التي لم يستعمرها أو يغزوها جيش أو عدوان محتل من خارج دائرة الإسلام يهدف للتوسع والتمدد داخلها، وإن وصل المستعمرون إلى أطرافها وحدودها.
المطلب الأول: أخطر الهجمات على الإسلام
ومن الأمثلة على الاستئصال واستباحة البيضة
في التاريخ الإسلامي، ما حدث مع المسلمين في الأندلس، إسبانيا، واختراع «محاكم
التفتيش» الوحشية! ولا شك أن الحروب المغولية المدمرة التي نفذت من الشرق، والحروب
الصليبية الغربية في بيت المقدس وأكنافه، هي شكلان ونموذجان غير مكتملان لهذه
الحالة، فقد كانت هاتان المحاولتان الهجوميتان أخطر المواجهات والضربات التي لقيها
الإسلام في عقر داره الشام، وقد فشلت وتقهقرت الجيوش المهاجمة رغم اختيارها
للتوقيت المناسب، واستغلال حالة التفرّق والضعف التي أصابت العهد الأخير من
الخلافة العباسية.
ويكشف التتبع التاريخي للحملات المعادية
التي غزت منطقة الشام والجزيرة العربية بعد الإسلام، عن محاولات الاعتداء على
الحرمين الشريفين، والدور البارز للطائفة المنصورة في كسر غزوات البعوث والجيوش
الكافرة التي تسعى للنيل من بيضة الإسلام وأراضيها المقدسة، وتحاول الإفساد فيها
والسيطرة عليها.
ومن أبرز المحاولات العدوانية، أسطول الأمير
الصليبي أرناط[5] التابع لمملكة بيت المقدس، وحاكم قلعة الكرك جنوب الأردن، حيث أقدم سنة (577 هـ/ 1181 م) على مشروع خطير استهدف به غزو الحرمين
الشريفين والاستيلاء على تلك النواحي الشريفة عبر بحر القُلْزُم (البحر الأحمر)،
انطلاقًا من أَيْلة (مدينة العقبة)، ثم محاولة الأسطول البرتغالي[6] الذي التفّ حول رأس الرجاء الصالح، أقصى نقطة جنوب القارة الأفريقية، واتجهوا نحو
الحبشة واليمن وعُمان، ودخلوا البحر الأحمر، وكتب ألبوكيركِ قائد الأسطول في
يومياته: «كان
هدفنا الوصول إلى الأماكن المقدسة للمسلمين، واقتحام المسجد النبوي، وأخذ رفات
النبي محمد رهينة لنساوم عليهم العرب من أجل استرداد القدس»[7].
وكان الخطر على الجزيرة العربية قبل الإسلام
يأتي من اليمن والحبشة، ومع قدوم الإسلام تغيرت وجهة الخطر القادم إلى البيت
الحرام، فقد جاءت معظم التهديدات من الشمال ولا سيما الشمال الغربي حيث الشام وبيت
المقدس والبحر الأحمر، ومصدرها الروم بشقيهم: أوروبا الغربية والشرقية عبر الشام.
ونلمح في هذا التتبع إجابة مقنعة لسبب
اختيار الشام لتكون ميدان عمليات الطائفة المنصورة، ولتكون أرض جهاد ورباط إلى يوم
القيامة، فموقعها الاستراتيجي على عتبة الديار الحجازية المقدسة، وهي تعتبر المنفذ
البري الوحيد[8] للولوج إلى الجزيرة العربية الموقوفة على المسلمين، دون غيرهم من الملل، يُحتّم
على أهلها ومن بسط نفوذه عليها من الأمة الإسلامية، أن يتصدى لأي هجوم عدائي مهما
بلغ من ظلم وغطرسة وقوة تدميرية.
ووجود المسجد الأقصى وبيت المقدس في قلب الأحداث يؤجج روح المقاومة بحيث لا تتوقف، ويثير النفوس المؤمنة، ويوحّد صفوف المقاتلين تحت راية واحدة وهي راية الجهاد والدفاع عن المقدسات، فوجوده في تلك النقطة المتقدمة يجعل من الصعب على مجاهدي الأمة التراجع عن ذلك الخط، وترك ثالث الحرمين دون حماية أو تحرير، حتى ينصرهم الله أو يهلكوا دونه، وحتى يحفظوا دين الله.
وأشار ابن تيمية إلى مآلات انتصار أو هزيمة الطائفة المنصورة في زمنه (عهد المماليك) على المغول والتتار، وأثر ذلك على الحجاز والأمة الإسلامية، فقال: «فلو ذلَّتْ هذه الطائفة -والعياذ بالله تعالى- لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس، لا سيّما وقد غلب فيهم الرفض، ومُلْك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض؛ فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكليّة»[9].
[1] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، حرف الباء، باب الباء مع الياء، مادة: بيض، ص: (2/412).
[2] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، حرف الباء، باب الباء مع الياء، مادة: بيض، ص: (2/412).
[5] عثمان، الاعتداءات على الحرمين الشريفين عبر التاريخ، ص: (60). وانظر: الصلابي، صلاح الدين الأيوبي، مرجع سابق، ص: (470).
وأرناط هكذا عرف في المصادر العرب، وفي بعضها أرياط، هو رينو دو شاتيون بالفرنسية (Renaud de Châtillon)، ورينالد بالإنجليزية (Reynald or Reginald of Chatillon)، فارس صليبي فرنسي، ولد سنة (1124 م)، كان شر القادة الصليبيين وأشدهم نهبًا وتنكيلًا، وقع في كمين نصبه له مجد الدين ابن الداية أحد قادة نور الدين زنكي، عندما كان أرناط حاكمًا على إمارة انطاكية الصليبية، وسجن في حلب قرابة (15) سنة، قتله صلاح الدين الأيوبي بقطع رأسه في معركة حطين قرب طبريا سنة (583 هـ/ 1187 م).
[7] الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، مرجع سابق، ص: (193).
وألبوكيركِ (Afonso de Albuquerque) هو قائد وجنرال بحري برتغالي، ولد سنة (1453 م) في مدينة بالقرب من لشبونة عاصمة البرتغال، حكم السواحل الهندية حين استولت عليها البرتغال، وارتبطت الحملات البرتغالية على جنوب الخليج العربي باسمه، وإليه تنسب الخطة الخبيثة للاستيلاء على منافذ البحر الأحمر والخليج العربي واقتحام الأماكن المقدسة للمسلمين، توفي سنة (1515 م) بالهند.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق