2 - 6 - 3 وظيفة الطائفة المنصورة وحديث البعوث التي تغزو البيت


الفصل الثاني المبحث السادس: وظيفة الطائفة المنصورة في صد البعوث 

المطلب الثالث: البعوث التي تغزو البيت 

يأتي هذا المنع الحازم (كما جاء في سياق الأيات) لدخول المشركين إلى البيت الحرام مع إخبار النبي ﷺ بأن أعداء الأمة لن يكفّوا عن مهاجمة ديار الإسلام للوصول إلى الحجاز والكعبة المشرفة، فقد روى أبو هريرة، عن النبي ، قال: «لا تنتهي البعوث عن غزو بيت الله، حتى يُخسف بجيش منهم»[1]. وعن أم المؤمنين صفيّة، قالت قال رسول الله : «لا ينتهي الناس عن غزو هذا البيت حتى يغزو جيش، حتى إذا كانوا بالبَيْداء -أو بيداء من الأرض- خُسف بأولهم وآخرهم، ولم ينجُ أوسطهم»، قلتُ: فإن كان فيهم من يُكْرَه، قال: «يبعثهم الله على ما في أنفسهم»[2]. وفي رواية: «إنهم يُبعثون على نيّاتهم»[3].

وروى الإمام مسلم عن أم المؤمنين حفصة، أنها سمعت النبي ، يقول: «لَيَؤمَّن هذا البيتَ جيشٌ يغزونه، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، يُخسف بأوسطهم وينادي أولُهم آخرَهم، ثم يخسف بهم، فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم»[4].

وفي هذه الأحاديث إخبار بأن محاولة غزو الكعبة المشرفة تكون أكثر من مرة، وهي محاولات مستمرة لا تنتهي، ولا يتوقف عنها الأعداء، وقد بشّر النبي  منذ فتح مكة بفشل هذه المحاولات، وأنها ستبقى آمنة إلى يوم القيامة، ولن يتمكن جيش كافر من غزو البيت الحرام بغية هدمه وتخريبه، فعن الحارث بن مالك بن البرصاء قال: سمعت النبي  يوم فتح مكة يقول: «لا تُغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة»[5]، وفي رواية أخرى: «لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدًا»[6].

ولعل في قول رسول الله  يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»[7]، إشارة نبوية للتغيرات المستقبلية بعد هذا الفتح العظيم، ودعوة للاستعداد لها، حيث كان الناس يبايعون رسول الله  على الهجرة إلى المدينة المنورة، فلما فتحت مكة المكرمة أمر رسول الله أن تكون المبايعة على الإسلام والجهاد وعمل الخير.

إذن، لن يتمكن أي جيش كافر من غزو البيت الحرام، وبلوغ مرماهم في الوصول إلى أحد الحرمين أو كلاهما وتخريبه، رغم المحاولات المتكررة من قبل الأعداء لتحقيق ذلك، حتى لو استدعى الظرف أن يرسل الله على أحد هذه الجيوش المبعوثة عقابًا من عنده فيخسف بهم الأرض من تحتهم.

والآن، بعد أكثر من 1400 قرن، أين هي هذه الجيوش والبعوث؟ من جاء منها؟ ومتى جاء؟ وأين كانت تنتهي؟ وكيف كانت تُباد؟ ولماذا لم نشعر بها؟ فالحجاز تحديدًا من المناطق النادرة التي لم يجر احتلالها عسكريًا عبر التاريخ، حتى في استعمار العصر الحديث.

ولا أرى إمكانية الإجابة على هذه التساؤلات حول حديث البعوث التي تغزو البيت، دون النظر إلى الشام التي شكّلت عبر التاريخ نقطة تجمّع استراتيجية لطوائف الأمة المندفعة نحو الجهاد في سبيل الله، فأصبحت الثغر الأكبر الذي يلتقي فيه الجميع لإبداع (طائفة الحق المنصورة) ولحماية بيضة المسلمين، وتكوين الخط الأخير أمام أشرس الهجمات التي تحاول الوصول إلى الحرم الآمن ومركز الإسلام.

وقد تكشّف هذا الدور المهم والوظيفة المعقّدة للطائفة المنصورة -كما هو ظاهر- من خلال سياق الآيات الكريمات والحديث الشريف، والتطبيق الفعلي على أرض الواقع عبر تاريخ الصراع والدفاع عن الديار الإسلامية والأراضي المقدسة.

فلا غرابة أن يوجّه الأعداء أشد الهجمات والحملات العسكرية إلى الشام، ولا غرابة أن تبوء كلها بالفشل، وتتحطم دون تحقيق أمانيها، ولا فرصة للنفاذ من الشام إلا بإرادة وحكمة إلهية، تتجلى فيها قدرة الله، وقد تظهر فيها حرمة البيت الموصولة بالسماء، كما حدث مع أبرهة الأشرم، وكما سيحدث مع الجيش الذي يخسف بهم في بيداء المدينة المنورة[8]، والله وليُّ ذلك والقادر عليه.

ويجدر التنبيه هنا إلى أن وظيفة الطائفة المنصورة في حماية بيضة الإسلام والدفع عن الحرمين الشريفين هي وظيفة متعلقة برد الأعداء الخارجيين، والجيوش الكافرة الغازية لديار الإسلام، كما يظهر من سياق الحديث والآيات القرآنية، ولا تتعلق بالاعتداءات الناجمة عن الفتن الداخلية، كما فعل مسلم بن عقبة في المدينة المنورة يوم الحَرّة، والحجاج بن يوسف في مكة المكرمة مع عبد الله بن الزبير، والقرامطة الإسماعيلية وسرقتهم للحجر الأسود، واشتباكات بعض الأشراف وأمراء الحجاز فيما بينهم، وغيرها.

وهنا نستطيع التفريق بين مخططات عدوانية توسعية تخريبية، تهدف للمكوث والاستقرار طويلًا وتغيير جوهر البنية الإسلامية، وبين فتن واشتباكات آثمة سرعان ما تهدأ، ويجري معالجتها، وينقضي أمرها.

 

انـتهـى بحمد الله

وتوفيقه...



[1] سنن النسائي، كتاب مناسك الحج، باب: حرمة الحرم، حديث: (2881)، (396). وانظر: الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث: ص: (2432).

والخسف: هو انشقاق الأرض وابتلاعهم بشكل مفاجئ، وقد ينجم عن زلزال أو هزة أرضية، أو غير ذلك، ولله جنود السماوات والأرض.

[2] سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، باب: جيش البيداء، حديث: (4064)، (587). وانظر: الألباني، صحيح ابن ماجة، حديث: (3301)، ص: (331).

↩ عودة 

[3] المرجع السابق، (588)، حديث: ص: (4065).

↩ عودة 

[4] صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، حديث: (7242)، ص: (1247).

↩ عودة 

[5] جامع الترمذي، أبواب السير، باب: ما جاء ما قال النبي يوم فتح مكة، حديث: (1611)، (390). وصححه الألباني في: صحيح الترمذي، وانظر له أيضًا: السلسلة الصحيحة، حديث: (2427).

↩ عودة 

[6] مسند أحمد بن حنبل، حديث: (15408)، (24/133). وحسّنه الأرناؤوط.

↩ عودة 

[7] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، حديث: (4831)، ص: (837).

↩ عودة 

[8] أشارت بعض الروايات، وإن ضعَّفها بعض العلماء، إلى أن هذا الجيش الذي يُخسف به، يُبعث من الشام صوب مكة المكرمة، مثل الحديث الذي في مسند أحمد، ص: (44/286)، ورقمه: (26689)، وفيه: «فيُبعث إليهم جيش من الشام، فيُخسف بهم بالبيداء». والحديث ضعفه الأرناؤوط، ثم قال: ومع ذلك، قال ابن القيم في (المنار المنيف): «والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح».

↩ عودة 

قد تُعجبك هذه المشاركات:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق