2 - 2 - 1 الأقوال والأدلة في أن الطائفة المنصورة هي المجاهدون


الفصل الثاني المبحث الثاني: دورها الجهادي 

نقل بعض العلماء أقوالًا متعددة في تعريف من تكون الطائفة المنصورة، وفي تحديد فئة الخير التي تنتمي إليها، وما هو دور أفرادها وطبيعة عملهم، فقال ابن العربي: «وأما الطائفة المنصورة فقيل هم أصحاب الحديث، وقيل هم العباد، وقيل هم المناضلون على الحق بألسنتهم، وقيل هم المجاهدون في الثغور بأسنَّتهم»[1] والمناضلون على الحق بألسنتهم، أي العلماء.

وقال النووي: «ويحتمل أن هذه الطائفة مفرّقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير»[2].

ونقل المناوي عن البيضاوي قوله: «والطائفة هم المجتهدون في الأحكام الشرعية، والعقائد الدينية، أو المرابطون في الثغور، والمجاهدون لإعلاء الدين»[3]، وقال المناوي: «وهم جيوش الإسلام أو العلماء الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر»[4].

أورد كثير من علماء الحديث حديث الطائفة المنصورة في مصنفاتهم في كتب الجهاد والسير، وبين أحاديث فضل الجهاد والاستشهاد؛ لتبيين صفة ثابتة لها، متعلقة بطبيعة عملهم، وبأنهم مجاهدون ومقاتلون لأعداء الأمة

تعددت هذه الأقوال، في الأغلب، بين من قال إن الطائفة هم المجاهدون، ومن قال إنهم العلماء، ومن ذهب إلى أنهم العباد والزهاد، ولم يختلف العلماء في شأن من شؤون الطائفة المنصورة كما اختلفوا في أمر تعيين فئتها، وطبيعة دورها، ولستُ أرى أن الحديث يحتمل كل هذه الدلالات، وسيظهر من خلال هذا البحث أن الطائفة المنصورة هي المجاهدة في سبيل الله، وأن هذا ما رآه سلف الأمة، وأما الأقوال الأخرى فهي أقوال متأخرة، نشأت بين الخلف، وقد تكون بداية ظهورها في القرن الخامس الهجري[5]؛ فليس قبل هذا الزمن أقوال مشابهة أو مؤيدة، وكثير من علماء السلف، كما تبين في المبحث السابق، قال إنهم أصحاب الحديث، يريدون تبيين منهج الطائفة باتباعها للسنة، بينما أراد آخرون منهم إبراز عمل الطائفة ودورها، وذهبوا إلى أنها المجاهدون، كما سيأتي بيانه.

 

المطلب الأول: الأقوال والأدلة في أنها المجاهدون

أورد كثير من علماء الحديث حديث الطائفة المنصورة في مصنفاتهم في كتب الجهاد والسير، وبين أحاديث فضل الجهاد والاستشهاد؛ لتبيين صفة ثابتة لها، متعلقة بطبيعة عملهم، وبأنهم مجاهدون ومقاتلون لأعداء الأمة.

فقد أورد أبو داود الحديث في كتاب الجهاد، باب في دوام الجهاد[6].

وذكره الإمام مسلم في كتاب الإمارة[7]، وفيه (56) بابًا، خصّص منها (29) بابًا في الجهاد، أي أكثر من نصف عدد الأبواب، تبدأ بباب رقم (25): المسابقة بين الخيل وتضميرها، ثم باب (26): الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وتنتهي بباب (53): قول النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم[8]، والباب الذي قبله (52): باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه.

ونرى ضمن هذه الأبواب: باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، وباب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، وباب: فضل الجهاد والرباط، وباب: ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، وباب: فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، وغيرها.

ويظهر أن الإمام مسلم جعل كتاب الجهاد في مصنفه للأحاديث التي تبين أحكام الجهاد الشرعية والفقهية، وترك أحاديث فضل الجهاد، والإعداد له، وما يحث عليه في كتاب الإمارة، والله أعلم.

ولهذا أورد أبو عوانة، تلميذ مسلم، الحديث في مسنده في كتاب الأمراء، على طريقة شيخه، وترجم له مطوّلًا: باب: بيان إثبات الجهاد، وأنه ماضٍ إلى يوم القيامة، وأنه لا يزال قوم من أمة محمد  على الحق، يذبّون عن الدين، ويقاتلون عنه، ويُنصرون على من خالفهم إلى يوم القيامة، والدليل على أنه لا يظهر عليهم أحد من أهل الأديان[9].

ونقل أبو العباس القرطبي في تلخيصه لصحيح مسلم هذه الأبواب والأحاديث من كتاب الإمارة إلى كتاب الجهاد والسير[10]، ومثله فعل المنذري، إذ وضع باب أحاديث الطائفة المنصورة في كتاب الجهاد[11].

وروى سعيد بن منصور الحديث في سننه في كتاب الجهاد، باب: من قال الجهاد ماضٍ[12]. وذكره الدارمي في مسنده، في كتاب الجهاد، باب: لا تزال طائفة من هذه الأمة يقاتلون على الحق[13]. والبيهقي في كتاب السير، باب: إظهار دين النبي  على الأديان[14]، وباب: ما يجب على الإمام من الغزو بنفسه أو بسراياه في كل عام على حسن النظر للمسلمين حتى لا يكون الجهاد معطّلًا في عام إلا من عذر[15].

ورواه ابن الجارود في باب الهجرة، باب: دوام الجهاد إلى يوم القيامة[16]، ورواه الحاكم في كتاب الجهاد[17]، إضافة إلى ما رواه في كتاب الفتن والملاحم.

وجمع أبو الفرج المقرئ أربعين حديثًا في فضل الجهاد، وسمّاها: الأربعين في الجهاد والمجاهدين، وجعل الحديث الرابع عشر[18] منها حديث سلمة بن نفيل الكندي.

وعدّه الكتّاني من الأحاديث المتواترة في الجهاد، فقد رتبه في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر)، في كتاب الجهاد[19].

وفي زمننا المعاصر، جمع الشيخ صالح أحمد الشامي زوائد (الأحاديث المختارة) لضياء الدين المقدسي على الكتب التسعة[20]، ورتّب باب: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، أول أبواب كتاب الجهاد في سبيل الله[21].

وأما أقوال العلماء، فقد أجاب الإمام أحمد بن حنبل عندما سُئل عن حديث الطائفة المنصورة: «هم أهل المغرب، إنهم هم الذين يقاتلون الروم[22]، كل من قاتل المشركين فهو على الحق»[23].

وقال التُورِبُشْتي: «الأمة القائمة بأمر الله، وإن اختُلف فيها، فإن المعتدّ به من الأقاويل أنها الفئة المرابطة بثغور الشام نضّر الله بهم وجه الإسلام»[24].

وقال ابن تيمية: «هم في هذا الوقت، المقاتلون على دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولًا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي »[25].

ونقل المناوي عن الحَرَالي قوله: «ففي طيّه إشعار بما وقع، وهو واقع، وسيقع، من قتال طائفة الحق لطائفة البغي، سائر اليوم لمحمدي، مما يخلّص من الفتنة، ويخلص الدين لله توحيدًا، ورضًا، وثباتًا على حال السلف الصالح»[26].

وقال نور الدين السندي، في شرحه لحديث سلمة بن نفيل الذي فيه أن الناس أذالوا الخيل ووضعوا السلاح: «المراد بالأمة: المجاهدون من المؤمنين، وبالأقوام: الكفرة»[27].

وذهب بعض العلماء إلى أن (أهل الغرب) في الحديث هم المجاهدون، ونقل ذلك ابن العربي في شرحه على الموطأ: «قال قوم: هم المخصوصون بالجهاد، المثابرون عليه، الذين لا يضعون أسلحتهم، فهم أبدًا في غرب، وهي الحدّة»[28]، أي القوة، وقال القاضي عياض وابن الأثير مثل هذا الكلام، كما ذكرت في هذا البحث[29]، وقال ابن حجر في (فتح الباري): «وقيل: المراد بالغرب، أهل القوة والاجتهاد في الجهاد»[30].

ونقل المناوي أن من العلماء من فسّر (الأمر) في قول النبي : (قوّامة على أمر الله)؛ بالجهاد، فقال: «قال البيضاوي: أراد بالأمة: أمة الإجابة، وبالأمر: الشريعة والدين، وقيل: الجهاد وبالقيام به، والمحافظة والمواظبة عليه»[31].

وقال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي ت: (1362هـ/ 1943 م): «فغير بعيد، أن أول ظهور هذه الطائفة المجاهدة في سبيل الله المتمسكة بالحق إلى قيام الساعة، الطائفة المجاهدة اليوم في فلسطين، وإن سمّاها أعداء الدين بالثوّار، وأنهم لا يزالون منصورين، وبالحق متمسكين إلى أن يرأس هذه الطائفة المهدي المنتظر، ثم بعد ذلك ينزل عليها عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان»[32].

ومن المعاصرين، عدّ الشيخ القرضاوي في كتابه (فقه الجهاد) أحاديث الطائفة المنصورة من الأدلة الشرعية على استمرار الجهاد إلى يوم القيامة، وقال: «فهذه الطائفة المرابطة الصامدة، الجاهدة المجاهدة، التي وصفت بأنها على الحق ظاهرة، ولعدوها قاهرة، وأنها لا يضرها من خالفها ولا من خذلها.. حتى يأتي أمر الله، أي: حتى تقوم الساعة، وهم كذلك: ثابتون على العهد، صابرون في البأساء والضراء، وحين البأس»[33].

وقال سلمان العودة: «ومهمة الطائفة المنصورة -كما قدَّمتُ- هي استمرار القيام بالجهاد، وإن تخلَّت عنه عامَّة الأمة، فإن كان ثمَّة عقبات وموانع تحول دونه؛ كانت مهمَّتُها العملَ على تهيئة الأسباب؛ لإعلان الجهاد، وإزالة العقبات، وتذليلها»[34].

وقال محمد صالح المنجِّد: «وأكثر الأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة تنص على الجهاد... وفي ذلك إشارة إلى أن بقاء الإسلام، وأهله، مرتبط بالجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الله، وهذا ماضٍ إلى يوم القيامة»[35].

 

الأدلة والدلالات

تمثل الطائفة المنصورة عبر تاريخها الطويل أنموذجًا مميزًا للصلاح والخيرية، وتعدّ نخبة الصالحين في الأمة المحمدية وإن كان الصلاح لا ينحصر بها، وهي تواظب على أفضل الأعمال التي أمر بها الإسلام، وعلى أهم الأعمال التي لا يقوم الدين بدونها.

فهل يتصور امرؤ منا أن تعبّر هذه الطائفة عن أفضل النماذج وأسماها وأعلاها، ثم لا تقوم بأعلى عمل في الإسلام، العمل الذي يوجب جميع حقائق الأعمال التي أمر بها الدين، ذروة سنام الإسلام وأعماله، هل يمكن لهذه الطائفة أن تتقاعس عن الجهاد في سبيل الله، ولا سيما أعلى مراتبه قتال أعداء الله المعتدين على الدين، والعباد والبلاد.

وإلى جانب القتال جاء في الروايات على اختلافها: يجاهدون، وتجاهد، وحرب، وسلاح، والخيل، وعدوهم، وأعداء الله، وأعداءها، وناوأهم، وناوأه، وعلى من يغزوهم قاهرين، وهي دلالات مباشرة لأدوات المجاهدين وأفعالهم وخصومهم، وتزيد هذه الألفاظ الاطمئنان على أن صفة القتال والجهاد في سبيل الله هي صفة أصيلة وثابتة في الطائفة المنصورة

الجهاد كما أخبر النبي هو ذروة سنام الإسلام، وسنام أعماله كما روى ذلك الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل وأي الأعمال خير؟ قال: «إيمان بالله ورسوله». قيل: ثم أي شيء؟ قال: «الجهاد سنام العمل». قيل: ثم أي شيء يا رسول الله؟ قال: «ثم حج مبرور»[36]، وما ورد في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد»[37].

وهو كما قال ابن تيمية في تبيين معنى المؤمن والمنافق إنه في كون الجهاد سنام العمل فإنه ينتظم فيه سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام محبة الله ورسوله، وفيه سنام التوكل على الله، وسنام الصبر، وهو موجب للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما قال، وذكر قول الإمامين عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: (إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم)، وقال أيضًا أن في الجهاد: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفيه حقيقة الإخلاص لله سبحانه وتعالى[38].

هل يستوي أن نمتدح الطائفة بأجلّ الصفات، ونثني عليها، وهي لا تقوم إلا بما يقوم به أي مسلم من العبادات والمعاملات، وقد يقوم به المنافقون ولو شكلًا، إنها بلا ريب تتجاوز القيام بما يكره القاعدون والمتقاعسون القيام به، وإن اشتد عليها الكرب، وطال بها الحال، وهي لا تقوم بالجهاد في سبيل الله مجرد الأداء، بل يجدر أن تتميز فيه، ويُحكى عن إنجازها عبر التاريخ.

وإن كانت أقوال العلماء المبيّنة لدور الطائفة الجهادي متعددة وممتدة، منذ العصور الأولى حتى وقتنا المعاصر، فإن دلالات ذلك كثيرة في حديث الطائفة المنصورة، ومنها ما تبيّن في صراحة مناسبة ورود الحديث[39] في الحث على استمرار الإعداد للقتال، وعدم وضع السلاح، وترك الخيل دون رعاية، وعدم الركون أبدًا، وجاء قوله : «الآن، الآن، جاء القتال»، معلنًا عن مرحلة جديدة بدأت، عنوانها الجهاد في سبيل الله، تنطلق فيها الدعوة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية، شرقًا وغربًا، باتجاه بلاد الأعاجم الفرس والروم، ويوضح هذا حقيقة الطائفة المنصورة القائمة على الجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الله الكافرين المناوئين للحق، على مر الدهور والعصور.

وظهر في السياق الموضوعي[40] للروايات أن الحديث يرسم للأمة خطًا زمنيًا يقوم على جهاد الطلب وجهاد الدفع، فالأول وقع فعليًا عبر الفتوحات الإسلامية وعموم مُلك الأمة في مشارق والأرض ومغاربها، والثاني ينطبق على الأمة في زمن الفتن، إذ تنشب حروب الأقوام ضدها من حرب إلى حرب، وينتشر الكذب والشرك والأئمة المضلين، وتربص الأعداء.

ومن الأدلة أن الفترة الزمنية التي ورد فيها الحديث، وهي الفترة المتأخرة من حياة النبي ، كانت البيعة فيها على الإسلام والجهاد، بعد أن كانت البيعة قبل فتح مكة على الهجرة إلى المدينة المنورة، فقد روى مسلم في صحيحه أن الصحابي مجاشع بن مسعود السلمي قال: أتيتُ النبي  أبايعه على الهجرة، فقال: «إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير»[41]. وروى أيضًا أن رسول الله  قال يوم الفتح، فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»[42].

ولو أمعنَّا النظر في ألفاظ الحديث، لوجدنا ما لا يتردد في الدلالة على الجهاد والقتال، وأهمها ما جاء للإخبار عن أنها تقاتل على الحق ظاهرة، لأن القتال في سبيل الله هو فعل المجاهدين، وصفة لهم لا لغيرهم، وهو دلالة مباشرة على أن الطائفة المنصورة منهم، ووردت جميع ألفاظ القتال بصيغة الفعل المضارع تمييزًا لهذه الصفة عن باقي صفات الطائفة المنصورة، ونجدها في (14) طريقًا من (20) من طرق الصحابة، وتكررت بجميع صيغها (147) مرة، كما يبين الجدول في الرسم التوضيحي التالي.

 

عدد مرات تكرار فعل القتال بجميع الصيغ في روايات حديث الطائفة المنصورة

رسم توضيحي 2: عدد مرات تكرار فعل القتال بجميع الصيغ.

 

وجاء في الروايات: (يقاتلون على الحق ظاهرين)[43]، و(يقاتلون على أمر الله)[44]، و(لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين)[45]، و(الأمر قائمًا تقاتل عليه عصابة)[46]، و(يقاتلون فضول الضلالة)[47]، و(يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله)[48].

و(حتى يخرج المسيح الدجال، فيقاتلونه)[49]، و(حتى يقاتلوا الأعور الدجّال)[50]، و(يرفع الله قلوب أقوام فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم)[51]، وفي بعض الروايات (تقاتلونهم).

والأربعة عشر صحابيًا الذين جاء ذكر القتال في رواياتهم هم: جابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وسلمة بن نفيل، وزيد الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، وثوبان بن بجدد، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وقرة بن إياس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، رضي الله عنهم أجمعين، وجاء في بعض روايات أبي هريرة ما يوافقها في المعنى، وبصيغة الفعل كذلك، منها: (يجاهدون في سبيل الله)[52]، و(تجاهد في سبيل الله)[53].

ووردت صفة القتال في صدر الحديث في ثلاث روايات في صحيح مسلم، مما يدل على أهميتها، كما جاء من طريق معاوية (ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة)[54]، ومن طريق جابر بن عبد الله (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)[55]، ومن طريق عقبة (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)[56].

وإلى جانب القتال جاء في الروايات على اختلافها: يجاهدون، وتجاهد، وحرب، وسلاح، والخيل، وعدوهم، وأعداء الله، وأعداءها، وناوأهم، وناوأه، وعلى من يغزوهم قاهرين، وهي دلالات مباشرة لأدوات المجاهدين وأفعالهم وخصومهم، وتزيد هذه الألفاظ الاطمئنان على أن صفة القتال والجهاد في سبيل الله هي صفة أصيلة وثابتة في الطائفة المنصورة، وديدن لها في سلوكها النابع من حملها همّ الحفاظ على الدين، وانظر في الرسم التوضيحي التالي تكرار هذه الألفاظ الدالة.

 

تكرار الألفاظ الدالة على الجهاد والقتال في روايات حديث الطائفة المنصورة

رسم توضيحي 3: تكرار الألفاظ الدالة على الجهاد والقتال.

 

وهذه الدلالات الواضحة المباشرة تقيّد وتفسّر باقي الألفاظ والصفات المطلقة والمجملة: تفسر كيف هم ظاهرون، وبماذا هم قاهرون، ولماذا هم منصورون، وما هو سر قيامهم على الدين.

ومن دلالة الجهاد والقتال الأشخاص المذكورين في الحديث، فنبي الله عيسى ابن مريم ﷺ ينزل من السماء ليقتل المسيح الدجّال لعنه الله، ويُنهي الحروب بين البشر بقتله وإهلاك أعوانه، وكلاهما جاء ذكرهما في الروايات.

ومن دلالاتها أيضًا تعيين مكان الطائفة المنصورة بالشام وبيت المقدس، وهي أرض جهاد ورباط إلى يوم القيامة، وقد ربط بعض العلماء بين فساد أهل الشام في حديث: “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم»[57] وبين تركهم الجهاد في سبيل الله، قال ابن العربي: «وأما مدحه للشام عند الفتنة، فلأنه كان مأوى الجهاد والرباط، فإذا فسد أهله، فسد الناس كلهم، لأنهم إذا تركوا الجهاد ذلّوا»[58]، وقال نور الدين السِّنْدي: «ويحتمل أن المراد فسادهم بكثرة المعاصي والطغيان وترك الجهاد، فقوله: (فلا خير فيكم) خطاب للناس عمومًا»[59].

وانظر إلى الآية الكريمة: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤئمࣲۚ (المائدة: 54)، كيف تربط بين فساد الردة وصلاح الجهاد في سبيل الله، وهي تخبر المسلمين أن من يرجع منهم عن دينه الحق، فيبدّله ويغيّره بدخوله في أي من صنوف الكفر، فسوف يجيء الله بدلًا منهم أناسًا مؤمنين يجاهدون في قتال أعدائه على النحو الذي أمرهم به، ولا يخافون لومة لائم، ولا يصدُّهم عن ذلك شيء.

ثم إن استمرار الطائفة بالبقاء إلى يوم القيامة يوافق استمرارية الجهاد إلى ذلك اليوم، كما روى البخاري أن النبي  قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم»[60]. قال ابن حجر: «وفيه بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن مِن لازِم بقاء الجهاد بقاءَ المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق)، الحديث»[61].



[1] ابن العربي المالكي عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، مرجع سابق، كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام ص: (9/45).

[2] النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، مرجع سابق، كتاب الإمارة، باب قول النبي : لا تزال طائفة ظاهرين على الحق، ص: (13/97-98).

↩ عودة 

[3] نقله المناوي في: فيض القدير شرح الجامع الصغير، مرجع سابق، حرف (لا)، ص: (6/514).

↩ عودة 

[4] المرجع السابق، ص: (6/512).

↩ عودة 

[5] أقدم العلماء الذين ذكرتهم في تعدد الأقوال هو أبو بكر بن العربي (468-543 هـ)، القاضي المالكي، وأحدثهم المناوي من القرن العاشر الهجري، والآخرون فمن القرن السابع.

↩ عودة 

[6] سنن أبي داود، ص: (359).

↩ عودة 

[7] قال كثير من العلماء إن من وضع أبواب صحيح مسلم هو النووي، وأما من رتّب الأبواب فعليًا فهو الإمام مسلم، قال النووي: «ثم إن مسلمًا رتب كتابه على الأبواب، فهو مبوب في الحقيقة، ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب لئلا يزداد حجم الكتاب أو لغير ذلك»، انظر: مقدمة النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، ص: (1/42).

↩ عودة 

[8] صحيح مسلم، ص: (857).

↩ عودة 

[9] أبو عوانة، المسند الصحيح المخرّج على صحيح مسلم، مرجع سابق، ص: (15/466).

↩ عودة 

[10] القرطبي، أحمد بن عمر، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، محيي الدين ديب متو وآخرون، دمشق - بيروت، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ط 1، (1417 هـ/ 1996 م). باب رقم: (54)، ص: (3/761).

↩ عودة 

[11] المنذري، عبد العظيم بن عبد القوي، مختصر صحيح مسلم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دمشق - بيروت، المكتب الإسلامي، ط 6، (1407 هـ/ 1987م). ص: (2/290).

↩ عودة 

[12] سعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، مرجع سابق، الأحاديث: (2371-2376)، ص: (2/144-145).

↩ عودة 

[13] الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، المسند الجامع، تحقيق: نبيل بن هاشم الغمري، بيروت - لبنان، دار البشائر الإسلامية، ط 2، (1434 هـ/ 2013 م). ص: (582).

↩ عودة 

[14] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، بيروت – لبنان، دار الكتب العلمية، ط 3، (1424 هـ/ 2003 م). ص: (9/304-305).

↩ عودة 

[15] المرجع السابق، ص: (9/68).

↩ عودة 

[16] ابن الجارود، عبد الله بن علي، المنتقى من السنن المسندة، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات - دار التأصيل، جمهورية مصر العربية، دار التأصيل - مركز البحوث وتقنية المعلومات، (1435 هـ/ 2014 م). ص: (436).

↩ عودة 

[17] الحاكم، المستدرك على الصحيحين، مرجع سابق، حديث: (2392)، ص: (2/81).

↩ عودة 

[18] المقرئ، أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن، كتاب الأربعين في الجهاد والمجاهدين، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، بيروت – لبنان، دار ابن حزم للطباعة والنشر، ط 2، (1415 هـ/ 1995 م). حديث: (14)، ص: (44).

↩ عودة 

[19] الكتّاني، نظم المتناثر من الحديث المتواتر، مرجع سابق، حديث: (145)، ص: (141).

↩ عودة 

[20] صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجه، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، ومسند الدارمي.

↩ عودة 

[21] الشامي، صالح أحمد، زوائد الأحاديث المختارة لضياء الدين المقدسي على الكتب التسعة، بيروت وعمّان، المكتب الإسلامي، ط 1، (1433 هـ/ 2012 م). ص: (211).

والشامي هو صالح أحمد بوبس، ولد عام 1934م في مدينة دوما الواقعة شمال شرقي دمشق، حيث أتم دراسته الابتدائية، ثم انتقل إلى دمشق ليدرس المرحلة الإعدادية والثانوية في (معهد العلوم الشرعية) وتخرج منه عام 1954 م، فانتسب إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق، وتخرج منها عام1958 م، وكان أحد المتفوقين فيها، وانتقل سنة 1980 إلى المملكة العربية السعودية حيث عمل مدرسًا في المعاهد التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واستقر في مدينة الرياض.

↩ عودة 

[22] وكان أحمد بن حنبل يرابط في طرسوس، من المدن الشامية على ثغور الروم. كما ذكر ابن تيمية في الفتاوى: ص: (27/53).

↩ عودة 

[23] ابن هانئ، إسحاق بن إبراهيم، مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، تحقيق: زهير الشاويش، بيروت - دمشق، المكتب الإسلامي، ط 1، (1400 هـ). مسالة رقم: (2041)، ص: (2/192).

↩ عودة 

[24] التوربشتي، فضل الله بن الصدر، الميَسَّر في شرح مصابيح السنة، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المملكة العربية السعودية، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 2، (1429 هـ/ 2008 م). كتاب المناقب، باب: ثواب هذه الأمة، ص: (4/1360). ونقله عنه ملا علي القاري في: القاري، ملّا علي بن سلطان محمد، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، تحقيق: جمال عيتاني، بيروت – لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1، (1422 هـ/ 2001 م). كتاب المناقب، باب: ثواب هذه الأمة، ص: (11/416).

والتوربشتي هو أبو عبد الله، فضل الله بن حسن بن حسين، محدث وفقيه شافعي وقيل: حنفي، ونسبته إلى توربشت ناحية من شيراز في بلاد فارس، عاصر المغول والتتار وفِتنهم، توفي سنة (661 هـ).

↩ عودة 

[25] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص: (28/531).

↩ عودة 

[26] المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، حرف (لا)، ص: (6/514).

والحرالي هو أبو الحسن، علي بن أحمد بن حسن، التجيبي الأندلسي، ونسبته إلى حرالة، قرية من عمل مُرْسية (Murcia) مدينة جنوب شرق إسبانيا، ولد بمراكش في المغرب، ثم جال في البلاد، وسكن حماة في الشام، ووعظ بها وأقبل عليه الناس، وعمل تفسيرًا عجيبًا ملأه بالاحتمالات، وتكلم في علم الحروف والأعداد، وزعم أنه استخرج منه وقت خروج الدجال ووقت طلوع الشمس من مغربها، فمن العلماء من غالى في تعظيم تفسيره، ومنهم من حطّ عليه، والله أعلم بسرّه، توفي سنة (637 هـ).

↩ عودة 

[27] السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، نور الدين بن عبد الهادي السندي، سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، بيروت – لبنان، دار البشائر الإسلامية، ط 4، (1414 هـ/ 1994 م). حديث: (3561)، ص: (6/215).

↩ عودة 

[28] ابن العربي، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، مرجع سابق، ص: (2/586).

↩ عودة 

[29] انظر: شرح (أهل الغرب) في مطلب: شرح ألفاظ الحديث ودلالتها. وانظر إن شئت: القاضي عياض، مشارق الأنوار على صحاح الآثار في شرح غريب الحديث، مرجع سابق، حرف الغين، الغين مع الراء، مادة: (غ ر ب)، ص: (2/130). ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مرجع سابق، حرف الغين، باب الغين مع الراء، مادة: غرب، حديث: (11361)، ص: (7/2993).

↩ عودة 

[30] ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ص: (24/104).

↩ عودة 

[31] المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، حرف (لا)، ص: (6/514).

↩ عودة 

[32] الشنقيطي، محمد حبيب الله، زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، تحقيق: محمد السيد عثمان، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، (2012 م). فيما كان مصدرًا بلفظ (لا) من الأحاديث العلية، حديث: (1217)، ص: (4/355-356).

↩ عودة 

[33] القرضاوي، يوسف، فقه الجهاد، القاهرة، مكتبة وهبة، ط 4، (1435 هـ/ 2014 م). ص: (1/550).

↩ عودة 

[34] العودة، صفة الغرباء، ص: (194).

↩ عودة 

[35] المنجد، محمد صالح، طوبى للشام، المملكة العربية السعودية، مجموعة زاد للنشر، ط 1، (1434 هـ/ 2012 م). ص: (27).

↩ عودة 

[36] جامع الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب: ما جاء أي الأعمال أفضل، حديث: (1658)، ص: (399). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر الحديث في: الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح سنن الترمذي، الرياض، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط 1، (1420 هـ/ 2000 م). ص: (2/237).

↩ عودة 

[37] المرجع السابق، أبواب الايمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث: (2616)، ص: (594-595). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وانظر: الألباني، صحيح سنن الترمذي، ص: (3/42).

↩ عودة 

[38] انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص: (28/441-442)، بتصرّف.

↩ عودة 

[39] انظر مطلب: زمن ورود الحديث ومناسبته، في المبحث الثالث من الفصل الأول.

↩ عودة 

[40] انظره في المبحث الثالث من الفصل الأول.

↩ عودة 

[41] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، حديث: (4826)، ص: (836).

↩ عودة 

[42] المرجع السابق، حديث: ص: (4829).

↩ عودة 

[43] الحديث: (6) في عينة البحث.

↩ عودة 

[44] حديث: (30).

↩ عودة

[45] حديث: (10).

↩ عودة 

[46] حديث: (12).

↩ عودة 

[47] حديث: (12).

↩ عودة 

[48] حديث: (18).

↩ عودة 

[49] حديث: (38).

↩ عودة 

[50] حديث: (28).

↩ عودة 

[51] مسند أحمد بن حنبل، الأرناؤوط، مسند سلمة بن نفيل، حديث: (16965)، (28/165). إسناده حسن. وانظر: ملحق الروايات والألفاظ، الجدول الحادي عشر: سلمة بن نفيل، حديث: (1).

↩ عودة 

[52] الحديث: (20).

↩ عودة 

[53] الحديث: (21).

↩ عودة 

[54] حديث: (6).

↩ عودة 

[55] حديث: (13).

↩ عودة

[56] حديث: (30).

↩ عودة 

[57] الحديث: (17).

↩ عودة 

[58] ابن العربي المالكي عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، ص: (9/45).

↩ عودة 

[59] السندي، محمد بن عبد الهادي، حاشية مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: نور الدين طالب، دولة قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، (1428 هـ/ 2008 م). ص: (8/410).

↩ عودة 

[60] صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، حديث: (2852)، ص: (579).

↩ عودة 

[61] ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ص: (9/108).

↩ عودة 

قد تُعجبك هذه المشاركات:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق